عندما تصبح القوانين بلا روح
في زمن تتكاثر فيه الشعارات وتُرفع فيه رايات العدالة والمساواة في كل مناسبة، يحق لنا أن نتوقف قليلًا ونتساءل: لماذا، رغم هذا الزخم القانوني والدستوري، ما زالت المظالم قائمة؟ ولماذا تستمر الفجوة بين ما يُكتب في النصوص، وما يُعاش في الواقع؟
لقد أثبتت التجربة، في أكثر من مكان وزمان، أن العدالة لا تتحقق بمجرد إصدار القوانين، مهما بدت عادلة في ظاهرها. فالقانون، في نهاية المطاف، أداة تنفيذ، وليس روحًا حية. وإذا لم يكن هناك إيمان داخلي عميق بمبادئ العدالة لدى الأفراد أنفسهم، فإن هذه القوانين تظل عرضة للتجاهل، أو التحايل، أو التجميد.
إن العدالة الحقيقية لا تبدأ من قاعات المحاكم، بل من داخل عقل الإنسان وضميره. تبدأ من سلوك الأب في منزله حين يعدل بين أبنائه، ومن تصرف المدير في مؤسسته حين يوزع الفرص دون تمييز، ومن موقف المواطن العادي حين يرفض أن يُعامل الآخر بازدراء بسبب اختلافه المذهبي أو القبلي أو الاجتماعي.
وإذا ما أردنا فعلاً بناء مجتمع ينهض من أزماته، ويؤسس لمستقبل أكثر إنصافًا، فعلينا أن نعيد تعريف العدالة، لا كحالة قانونية مجردة، بل كـقيمة ثقافية وشخصية، تُغرس في التربية، وتُترجم في العلاقات، وتُجسَّد في القرارات اليومية.
من السهل أن ننادي بالعدالة في الخطب والبيانات، لكن التحدي الحقيقي يكمن في ممارستها بصمت في التفاصيل اليومية. إننا نرى، في حياتنا العامة والخاصة، كيف يُفرَّغ مفهوم العدالة من مضمونه حين يُختزل في الإجراءات، بينما تُهمل روحه: الإنصاف، والاحترام، والتوازن. فكم من صاحب حق ضاع حقه لأنه لا يملك واسطة أو لسانًا فصيحًا؟ وكم من مظلوم صمت لأنه يعلم أن القانون، وإن كان إلى جانبه، لن يُنصفه فعلاً في واقع تحكمه الولاءات لا المبادئ؟
ولعل أوضح الأمثلة على غياب العدالة كمفهوم عميق ومتجذر، هو ما نراه في التمييز القائم على النوع الاجتماعي. فالمرأة، رغم ما حققته من إنجازات، لا تزال تُقصى في كثير من مجالات الحياة، ليس فقط بسبب قوانين ظالمة، بل لأن الثقافة المجتمعية لم تتشرب بعد مبدأ المساواة كحق طبيعي لا منّة فيه. ومهما وُضعت من تشريعات تضمن تمثيلها أو حمايتها، فإن هذه القوانين تظل هشة ما لم تتغير نظرة المجتمع نفسه إلى دور المرأة وكرامتها ومكانتها.
ولهذا، فإن تحقيق العدالة لا يتم فقط عبر إعادة صياغة الأنظمة، بل عبر إعادة تشكيل الوعي الجمعي. إنها تبدأ من المدرسة، حين يُربى الطفل على احترام الآخر وعدم السخرية من المختلف. وتُبنى في البيت، حين يُعامل الإخوة والأخوات بالمساواة. وتُصقل في الإعلام، حين يُكف عن تكريس الصور النمطية ويبدأ بنشر قصص تلهم وتُعلي من شأن النزاهة.
بل إن العدالة، كما نتمناها، لا تعني فقط إنصاف الأفراد، بل هي أيضًا أداة لبناء الثقة في المجتمع. وعندما يغيب الشعور بالعدالة، ينشأ مكانه الإحباط، ثم السخط، ثم القطيعة. ولا يمكن لأي نظام أن يصمد طويلًا إذا شعر أفراده أنهم ليسوا سواسية، أو أن أصواتهم لا تُسمع، أو أن حقوقهم مرهونة بولائهم لا بإنسانيتهم.
إن المطلوب اليوم هو مشروع وطني لإحياء قيمة العدالة كعنصر أساسي في بناء السلم الاجتماعي، يبدأ من الذات، ويمتد إلى المؤسسات. مشروع لا يكتفي بتجميل الدساتير، بل يُخاطب الإنسان في داخله، ويوقظ فيه حسّ الإنصاف، ويجعله شريكًا في صناعة مستقبل أكثر توازنًا وإنصافًا.
العدالة ليست ترفًا أخلاقيًا، بل ضرورة وجودية لأي أمة تريد أن تتجاوز أزماتها. والقوانين، مهما كانت متقنة، لا تكفي إذا لم يكن هناك ضمير حي يسهر على تطبيقها. وإذا أردنا أن نبني يمنًا جديدًا، فإن أول ما يجب أن نعيد بناءه هو علاقة الإنسان بالعدالة، لا كحق يطالب به حين يُظلم، بل كقيمة يمارسها حتى حين يكون في موقع القوة.