صنعاء 19C امطار خفيفة

اليمن.. من حرب أهلية إلى عقدة جيوسياسية في تنافس القوى الكبرى

منذ اندلاعه عام 2014، مر الصراع في اليمن بتحولات عديدة، وكذلك كانت مواقف القوى الكبرى منه. فقد بدأ هذا الصراع محليا كنزاع على السلطة، لكنه سرعان ما تجاوز حدوده المحلية مع تدخل التحالف العربي إلى جانب الحكومة ودخول إيران بقوة إلى جانب الجماعة الحوثية. ظل الصراع مراوحة بين مواجهات ميدانية وهدن، ومنذ عام 2022 تعيش البلاد حالة جمود مطولة ضمن مأزق اللاحرب واللاسلم.

في مراحل الصراع الأولى، تعاملت القوى الكبرى مع الأزمة اليمنية بوصفها شأناً أمنياً محدود التأثير. ولم تكن واشنطن ولا العواصم الغربية تنظر إلى اليمن كأولوية استراتيجية، بينما اتخذت موسكو وبكين موقف المراقب الحذر وتجنبتا أي تورط مباشر. وأظهر المجتمع الدولي موقفاً موحدا إلى حد كبير تجاه هذا الصراع عكسه التوافق في مجلس الأمن.
بدأ الوضع بالتغير منذ عام 2021 على الأقل، نتيجة التطورات الحاصلة في البيئتين الإقليمية والدولية. فوقف الولايات المتحدة دعمها للعمليات العسكرية للتحالف، واندلاع الحرب في أوكرانيا مطلع 2022، والحرب في غزة نهاية 2023، وصعود التنافس الأميركي الصيني الحاد، كلها عوامل أعادت رسم حدود الاهتمام الدولي بهذا الملف، ودفعت إلى تغيير في أولويات القوى الكبرى. وبسببها بدأ الملف اليمني، يكتسب مع الوقت وعلى حياء، بعداً جيوسياسياً ويتأثر بتنافس القوى العظمى.
أجبرت الهجمات الحوثية على الملاحة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين على تبنّي سياسة ردع عسكري مباشر، وأعادت واشنطن تصنيف جماعة أنصار الله كمنظمة إرهابية عالمية في فبراير 2024، ولحقت بها كل من كندا وأستراليا. وأصبح هؤلاء ينظرون إلى الجماعة كتهديد مستدام. وفي المقابل، وجدت موسكو وبكين في انشغال واشنطن وحلفائها بحرب أوكرانيا وتورطهم في مواجهات البحر الأحمر فرصة لتعزيز حضورهما في المنطقة وممارسة ضغوط على الغرب، خدمة لهدفهما الأوسع المتمثل في تقويض الهيمنة الأمريكية الغربية وبناء نظام عالمي متعدد الأقطاب. وعلى الرغم من عدم اعترافهما الرسمي بالحوثيين، إلا أنهما تبنتا سياسة مزدوجة تجمع بين الحياد المعلن وتوسيع علاقاتهما معهم. وتزايدت التقارير عن توريد أسلحة وتقنيات وسلع مزدوجة الاستخدام للحوثيين تسهم في تطوير قدراتهم التقنية والعسكرية.
في سياق الدعم الدبلوماسي، تبنت الدولتان استراتيجية الامتناع والتحوط في أزمة البحر الأحمر. وامتنعتا عن التصويت لصالح قرارات مجلس الأمن (2722 و2739) عام 2024، في محاولة لعرقلة أي إجماع غربي حول مواجهة الحوثيين. وهو امتناع تكرر قبل أيام عند مناقشة مشروع تجديد العقوبات المفروضة على اليمن بموجب القرار 2140. كما تبنتا الرواية الحوثية التي تربط استهداف الملاحة بالحرب في غزة. ما كان لهذا الانفتاح على الحوثيين إلا أن يثير قلق واشنطن وحلفائها الغربيين، واعتبروه تحدٍ لمصالحهم ونفوذهم التقليدي في هذه المنطقة الحساسة.
هذا التحول في مواقف الدول الكبرى ليس تحولاً مؤقتاً، بل مرشح للاستمرار، فالأمر لا يتعلق فقط بتحقيق مكاسب قصيرة الأجل، بل يرتبط بأهداف استراتيجية أعمق. ثم إن ما تقوم به الدولتان لا يرتبط فقط بحرب غزة وتفاعلاتها كما قد توحي ظواهر الأمور. وكلتاهما، مثلما إيران، اكتشفتا في الحوثيين ورقة ضغط فعالة في المواجهة مع الغرب. خصوصاً في ضوء فشل استراتيجية الردع والتصنيف الإرهابي. وهكذا، فاليمن لم يعد مجرد ساحة نزاع محلية أو إقليمية، بل أصبح عقدة جيوسياسية تتقاطع فيها مصالح القوى الكبرى.
لا شك أن مواقف القوى الكبرى ستعكس نفسها على الصراع وأطرافه ودينامياته. على المستوى المحلي، سيظل التنافس بين هذه القوى يوفر لأطراف الصراع خيارات وأوراق ضغط ومساومة، ويجعلهم أكثر قدرة على مقاومة الضغوط. وحتى الآن، يمكن القول إن الحوثيين هم أكثر المستفيدين من هذا التحول، فالدعم الصيني الروسي لهم يكرس ميزان قوى يميل في مصلحتهم أصلاً، ويضاعف قدرتهم على المناورة، ويمنحهم إحساساً بالدعم من قوى كبرى. وكل ذلك يزيد من تصلب موقفهم وتشددهم، ويجعلهم أقل استعداداً لتقديم تنازلات من أجل السلام. ومع أن القوى الغربية أصبحت أكثر ميلا لتقديم الدعم للحكومة، إلا أن ما من مؤشر على تقديم دعم مهم حتى الآن أو في المستقبل.
إقليمياً، من شأن المصالح المتشابكة والكبيرة مع السعودية والإمارات التخفيف من اندفاع موسكو وبكين والحد من فرص ذهابهما بعيدا في دعم الحوثيين. غير أن انفتاحهما على هؤلاء ودعمهم، وإن كان محدوداً، لا يصب في مصلحة الرياض أو أبوظبي. وأن يصبح الحوثيون أقوى بفعل هذا الدعم إنما يزيد من فرص عودة المواجهات في اليمن. خصوصاً في حال قررت القوى الغربية تبنّي خيار الحسم العسكري، وهو احتمال لا يزال بعيداً لكنه غير مستبعد.
من جهة أخرى، أضعف هذا التحول الإجماع الدولي تجاه الملف اليمني. ومع أنه مازال هناك توافق شكلي على ضرورة السلام، إلا أن سجلات التصويت في مجلس الأمن تكشف تبايناً حاداً، خصوصاً حول العقوبات والردع، وتُظهر الصين وروسيا وكأنهما يستخدمان مجلس الأمن كمنصة لإدارة التنافس مع الغرب، وليس بالضرورة لإيجاد حل للأزمة.
وفي المحصلة، قد لا يؤدي التنافس الجيوسياسي بين القوى العظمى بالضرورة إلى تجدد الحرب الشاملة، إلا أنه بلا شك يطيل أمد حالة "اللاحرب واللاسلم"، ويجعل فرص التسوية أكثر تعقيداً. فبعد أن كانت معادلة السلام رهناً بحسابات القوى المحلية والإقليمية، أصبحت اليوم مرهونة أيضاً بمصالح القوى العظمى وتفاهمات الكبار.

الكلمات الدلالية