صنعاء 19C امطار خفيفة

لماذا تجعلنا الثورات نندم على الماضي؟

تُولد الثورات عادةً من رحم المعاناة، ومن رغبة الشعوب في الخلاص من الظلم والفساد وبناء مستقبل أفضل. لكن في كثير من بلداننا، تتحول الثورات إلى مصدر خيبة، وتجعل الناس يترحمون على الأنظمة التي أسقطوها. فهل المشكلة في الشعوب، أم في طبيعة الثورات ذاتها، أم في من يقودها؟

الحقيقة أن أغلب الثورات العربية، واليمنية خصوصًا، لم تكن تملك مشروعًا وطنيًا واضحًا لما بعد إسقاط النظام. كانت ردّ فعل على واقع فاسد أكثر منها فعلًا مؤسسًا لتغيير منظم. وحين يسقط النظام، يُفتح فراغ هائل في السلطة، لا تملؤه المؤسسات بل القوى المتصارعة، فتتحول الثورة إلى ساحة لتنازع النفوذ بدل أن تكون جسرًا لبناء الدولة.
إلى جانب ذلك، تتحول الثورات سريعًا إلى صراع على السلطة. تُرفع الشعارات باسم الشعب، لكن الهدف يصبح الجلوس على الكرسي، لا إقامة العدالة. ومع غياب القيادة الموحدة والرؤية المشتركة، تتفتت الجبهات ويضيع الهدف الأول، فتتبدد أحلام الناس بالحرية في دوامة الفوضى.
كما أن الأنظمة السابقة -رغم استبدادها- كانت تمتلك مؤسسات دولة عاملة: جيش، شرطة، خدمات، إدارة. وعندما تنهار هذه البُنى فجأة دون بديل جاهز، يُصاب المجتمع بالشلل، فيفقد الأمن والمعيشة، ويصبح الحنين إلى "استقرار الماضي" شكلًا من أشكال التوق إلى الأمان لا إلى الطغيان.
ولا يمكن إغفال التدخلات الخارجية التي وجدت في الثورات فرصة لتصفية حساباتها. فتُموَّل أطراف، وتُسلَّح أخرى، فيتحول الحلم الوطني إلى حرب وكالة بين مشاريع خارجية، ويدفع الشعب الثمن مضاعفًا.
إن الثورة ليست هدمًا للنظام فقط، بل بناءٌ بديل أفضل. الهدم بلا رؤية هو فوضى، والثورة بلا وعي تتحول إلى لعنة. لذلك، لا يُقاس نجاح الثورات بعدد الشعارات التي رفعتها، بل بقدرتها على بناء مؤسسات قوية، وعدالة مستدامة، ومواطنة حقيقية.

الثورة اليمنية نموذجًا

عاشت اليمن أكثر من ثورة خلال العقود الماضية، من سبتمبر وأكتوبر إلى فبراير، لكن القاسم المشترك بينها هو العجز عن تحويل الثورة إلى دولة. فكل ثورة كانت تُسقط سلطة لتقوم أخرى مشابهة، ومع كل دورة جديدة تتآكل الثقة بين الشعب والنخبة السياسية.
لم يكن ينقص اليمنيين الشجاعة ولا التضحية، بل غابت عنهم القيادة الجامعة والمشروع الوطني الشامل الذي يوازن بين الحرية والاستقرار، وبين التغيير والبناء.
وهكذا، بقيت الثورات تتكرر، وبقي الندم يتكرر معها، لأن اليمنيين -مثل غيرهم- اكتشفوا أن إسقاط النظام أسهل من بناء الدولة التي تحمي الإنسان وتضمن كرامته.

الكلمات الدلالية