صنعاء 19C امطار خفيفة

الكلمة التي أرعبت السلطة

العودي يتوسط العلفي وأنور شعب

لم يكن اعتقال الدكتور حمود العودي ورفيقيه أنور خالد شَعْب وعبد الرحمن العلفي حادثة عابرة في زمن الفوضى اليمنية، بل لحظة تكشف جوهر الصراع الحقيقي في البلاد: صراع بين من يحاول أن يفكّر، ومن يخشى أن تُقال الفكرة بصوت مسموع. فحين تصبح الكلمة مصدر قلق للسلطة، يصبح كل ما بعدها مفهومًا ومتوقعًا.

الحادثة تأتي ضمن سلسلة تضييقات طالت ناشطين وعاملين في منظمات محلية، إضافة إلى موظفين تابعين للأمم المتحدة، تعرّض بعضهم للاعتقال أو الإخفاء القسري. كما مُنعت منظمات عدة من تنفيذ برامجها، في سياق قيود متزايدة على العمل المدني والإنساني.
العودي، وهو واحد من أبرز الأصوات الأكاديمية في اليمن، لم يكن يمارس عملًا سياسيًا مباشرًا، بل كان يتحرّك في مساحة يُفترض "بالدولة" حمايتها: مساحة المعرفة والحوار. عبر مركز دال والتحالف المدني للسلم والمصالحة، حاول أن يفتح نوافذ صغيرة في جدار الحرب؛ نوافذ للطرق المغلقة وللملفات المجمّدة. لكن هذه النوافذ بدت للسلطة أخطر من الأبواب الكبيرة، فانتهى الرجل في المعتقل، وصار مركزه هدفًا للهجوم والمصادرة.
اقتحام مركز "دال"  ومصادرة وثائقه وأجهزته، ثم إخفاء العودي ورفيقيه، ليست ممارسات تُفسَّر بقلق أمني عابر. إنها إعلان بأن المعرفة التي لا تنضوي في مشروع السلطة تُعامل كخطر وجودي.
ولا تقف الصورة عند حدود صنعاء. ففي عدن، تتواصل الاعتقالات بحق ناشطين ومدافعين عن حقوق بديهية، لا تتجاوز المطالبة بالشفافية. وفي تعز، حيث تتزاحم السلطات وتتنازع، أصبح ثمن الكلام فادحًا؛ وفي أحيان كثيرة لم يقف عند حدود إسكات الصوت، بل بلغ حدّ إطفائه إلى الأبد.
وعلى الرغم من اختلاف الرايات، تتشابه السلطات في خوف واحد، الخوف من المجتمع حين يكسر حاجز خوفه. وصار القمع، على اختلاف مصادره، لغةً مشتركة، وصار المواطن - لا العدوّ الخارجي - هو الخصم الذي يُحسب له الحساب. وهكذا تعيش البلاد في ظل سلطات متوازية تحرس حدودها من الناس لا من الفوضى، في واقع اختُطِفت فيه الدولة، وتلاه اختطافُ الكلمة الحرة.
ولا يمكن فهم هذا الانسداد الداخلي بمعزل عن محيط إقليمي لا يرى في حرية اليمنيين مكسبًا، بل قلقًا ينبغي تحييده. فالنماذج التي تقوم على معادلة “الرفاه مقابل الصمت” لا تشجّع على تجربة يمنية تسمح بفضاء مدني نشط أو حوار مفتوح. إن هامش الحرية، مهما بدا ضيقًا، يزعج سلطات لا تريد نموذجًا مختلفًا عنها.
هل يمكن لفكرة أن تجد مكانًا في بلد يُستهدف حاملُوها؟ وكيف يمكن لسلطات تخشى النقاش أن تقود مستقبلًا سياسيًا؟ بل كيف لمجتمع يعيش بلا دولة تحميه، ولا كلمة تحميه من السلطة، أن يخطو خطوة نحو سلام ممكن؟
أما المواقف الدولية الباهتة، فهي جزء من المشكلة لا من الحل. فالصمت الخارجي يمنح سلطات الأمر الواقع شعورًا بأن لا حساب ينتظرها، ولا معيارًا يُحتكم إليه. وفي بلد يئنّ تحت الحرب، تُعامَل حقوق الناس كقضية قابلة للتأجيل، رغم أنها المدخل الوحيد لأي سلام حقيقي.
إن اعتقال العودي ليس مجرد انتهاك آخر، بل علامة على مسار كامل يُعاد رسمه: مسار يرى في الفكرة تهديدًا، وفي السؤال جريمة، وفي الوعي بابًا لا يريد أحد فتحه. وإذا مرّت هذه الحادثة كما مرّت غيرها، فلن يكون الخطر في غياب الدولة فحسب، بل في ضمور القدرة على تخيّل دولة من الأصل.

الكلمات الدلالية