صنعاء 19C امطار خفيفة

عبدالله سلام الحكيمي يستعيد ملامح تشكل الوعي السياسي في اليمن

عبدالله سلام الحكيمي يستعيد ملامح تشكل الوعي السياسي في اليمن
عبدالله سلام الحكيمي

يعود السياسي اليمني المخضرم عبدالله سلام الحكيمي إلى الواجهة ليروي، بصراحة غير منقوصة، شهادته على تحولات أربعة عقود من العمل السياسي والفكري والدبلوماسي.

من قريةٍ صغيرة في ريف تعز، إلى شوارع عدن تحت الاستعمار البريطاني، ثم مقاعد الدراسة في تعز وصنعاء، وصولًا إلى العمل الدبلوماسي ومنابر الإعلام والسياسة، يفتح الحكيمي صندوق الذاكرة ليعود إلى البدايات: الطفولة بين المصلى والأحكوم، والضربة التي ربطته وجدانيًّا باسم جمال عبدالناصر، وكيف تشكّل وعيه السياسي بين "صوت العرب" و"إذاعة لندن"، قبل أن يلتحق بالتنظيم الناصري ويبدأ مسيرته في العمل العام.

في حديثه مع الزميلة رحمة حجيرة، تتقاطع محطات مهمة من تاريخ اليمن: ملامح ما قبل الثورة، تحولات السبعينيات، صعود التيارات الفكرية والسياسية، والصراعات التي شكّلت وعي جيل كامل.

الحكيمي، المعروف بمواقفه المستقلة وكتاباته المثيرة للجدل، يقدّم هنا روايته الخاصة؛ رواية تتجاوز السرد الشخصي لتتحوّل إلى تحليل معمّق لمرحلة حاسمة في تاريخ اليمن. كيف تشكل وعيه؟ ما الذي صاغ تجربته السياسية؟ وكيف يقرأ اليوم ما حدث بالأمس؟

"النداء" تنشر النص الكامل للحلقة بالتزامن مع عرضها المصوّر على قناة "حكايتي" في يوتيوب.

حكايتي
رحمة: مساؤكم سلام، اليوم نحيي قامة يمنية مثقفة ذات خبرة طويلة ورؤية حادة في الدبلوماسية والإعلام والسلام والمصالحة، حمل تعز بصوته أينما ذهب، وتعلم من تعز الثورة والتساؤلات، وحمل اليمن أيضًا ورافقته في منابره والمهجر وتعلم منها الصبر. ضيفي اليوم ينتقد الجميع دون استثناء، ولكنه يحظى باحترام الجميع.
مشاهدينا، رحبوا بسعادة السفير الأستاذ عبدالله سلام الحكيمي، عضو فريق المصالحة الوطنية والحل السياسي اليمني من صنعاء.
مرحبًا بك سعادة السفير، وشرف كبير لنا أننا نوثق سيرتك الذاتية، ونبدأ من تاريخ الميلاد، أنت من مواليد 1950 بصدق؟ وما هي الأدلة؟ أو ربما تاريخ الميلاد غلط؟
عبدالله سلام: أولًا، تحياتي لك كثيرًا، وأنا سعيد جدًا بهذا اللقاء والفرصة التي أتيحت لي، ورغم أني قاطعت وسائل الإعلام والظهور فيها، لكن في الحقيقة وجدت أن البرنامج الذي تقدميه شدني إليه، وهو برنامج متميز وجديد في نوعه، وقررت أن أكسر الحظر على الظهور في وسائل الإعلام بشكل عام.
رحمة: وهذا شرف كبير لنا، أستاذ.
عبدالله سلام: بالنسبة للميلاد، الشيء الثابت في الميلاد أن جدي - رحمه الله - كان يسجل المواليد لأُسرتنا والمحيطين بنا في الصفحة البيضاء من المصحف، وكنا مؤرَّخين نحن الأولاد والآباء والأجداد إلى حوالي سابع جد، وكانت تواريخ ميلادهم مكتوبة بالهجري، وأنا من مواليد - بحسب مصحف جدي - 22 رمضان 1369 هجري. بعد ذلك عملنا مقارنة بحسب ما هو معمول به في الإنترنت: ماذا يقابل هذا التاريخ بالميلادي؟ وعندما كنت في القاهرة بحثت عن المعادلة الميلادية للهجري، فاضطررت أن أخرج نسخة من صحيفة الأهرام القديمة التي صدرت في 22 رمضان 1369، ووجدتها توافق 7 يوليو 1950.
ترويسة الإهرام
رحمة: حدثنا عن والدك، اسمه وماذا كان يعمل، والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في حينها؟
عبدالله سلام: الوالد اسمه سلام غالب سعد أحمد بن أحمد إلى آخر التسميات، وكان عاملًا، هاجر من القرية إلى عدن، ثم انتقل لوقت قصير إلى الرياض، وكان يعمل في شركة أرامكو لمدة عام أو عامين، وبعد ذلك عاد إلى اليمن، وكان يعمل في مصافي عدن في البريقة، وكان ملحقًا أشبه ما يكون بمدير أو مسؤول عن الشؤون العامة لمدير المصافي البريطاني.
مصفاة عدن
رحمة: هذا يعني أن تعليمه كان جيدًا، أين درس؟
رحمة: هو لم يدرس، ولكنه درس في القرية دراسة تقليدية، وكان لديه إرادة صلبة وحماس واستعداد للتعلم، فأخي الكبير عبده - رحمه الله - والذي يسبقني بالعمر بعشر سنوات، هو الذي درَّسه اللغة الإنجليزية كتابةً ونطقًا، وكان يجيد اللغة الإنجليزية بشكل جيد ويكتبها. بعد ذلك عمل عند مدير المصافي في عدن وظل سنوات، ثم بعد ثورة 26 سبتمبر بفترة قرر هو وشقيقه الأكبر العودة إلى اليمن، لأن قريتنا كانت في المصلّى، وهي مركز تجاري رابط ما بين عدن والمحافظات الجنوبية وتعز، وأحيانًا إلى قريب الحديدة، كانت تذهب لها البضائع التي تأتي من عدن وتصل إلى المصلى عن طريق المفاليس، وهناك كانت قوافل من البغال والجمال تنقل البضائع من المحيط إلى المحيط، إلى النشمة وقريب المسراخ وجبل حبشي.
رحمة: هل هذه المصلّى هي نفسها التي تغنَّوا بها: يا نجم يا سامر سامر فوق المصلّى؟
عبدالله سلام: نعم، هي نفسها. الدكتور سعيد الشيباني - رحمه الله - كان مسافرًا وتأخرت السيارة، فنام في سقف أحد الدكاكين، وكان وهو ممدد يشاهد النجم، وكتب هذه القصيدة وتغنى بالمصلّى، ثم أعاد فهد بلان غناءها من جديد، وهو كان يقصد هذه المصلى، وهي منطقة جميلة فيها غيل يجري فيه الماء دائمًا، وفيها منتجات من الفواكه والخضار.
قرية المصلى
رحمة: الآن دعنا نكمل قصة والدك، بعد أن تعلم اللغة الإنجليزية وعاد إلى الداخل، ماذا حدث؟
عبدالله سلام: عندما عاد إلى الداخل، كان لديهم مخازن تجارية تستقبل البضائع التي تأتي من عدن بسيارات النقل القديمة جدًا، وكانت تستمر الرحلة من عدن إلى المصلى ثلاثة أيام، لأن الحمولة تكون كبيرة، والسيارة تمشي في طريق وعرة غير معبَّدة.
رحمة: في أي عام كان ذلك؟
عبدالله سلام: تقريبًا في أوائل الستينيات، والدي عندما عاد إلى قرية المصلى مع شقيقه، كان في هذا الوقت، وكان لديهم مخازن، وعمي شقيق والدي كان لديه مطعم أيضًا بجانب الدكاكين، واستمروا فترة في هذا المجال. بعد ذلك قرر والدي - مع خفَّة العمل التجاري في المصلى نتيجة لفتح طرق أخرى توصل البضائع إلى تعز وطريق الراهدة وطريق التربة - أن يفتح صيدلية، وساعدته على ذلك اللغة الإنجليزية لأنه كان يجيدها تمامًا. وأتذكر أنه سافر إلى صنعاء، وأنا لا زلت أعمل في جامعة صنعاء، وطلبوا منه أن يستخرج تصريحًا للعمل الصيدلي، وأنا من النوع الذي يكره الوساطة أيا كان، حتى لو لوالدي. بعد ذلك طلبوا منه اختبارًا، فأخذته إلى وزارة الصحة، وعملوا له اختبارات، والمدير المسؤول كان من بني غازي وهو صديق، وقلت له: أريد أن أتوَّسط للوالد، لكني شعرت بالحرج، فرد عليَّ: لا يحتاج وساطة، اجتاز الامتحان ونجح تلقائيًا.

صنعاء

رحمة: وكيف نجح ولم يدرس صيدلة؟
عبدالله سلام: هو كان في الإسعافات الأولية، لأن هي مخزن وليست صيدلية.
رحمة: ننتقل الآن إلى والدتك، ما اسمها؟ ومن أين هي؟ وهل تقرب لوالدك؟
عبدالله سلام: والدتي هي ابنة عمته شقيقة والده، واسمها نعمة سعيد غالب الهسهوس، و"الهسهوس" لقب أخوالي.
رحمة: وكم عددكم أبناء وبنات؟
عبدالله سلام: عبده، وفاطمة، وعبدالله، ومحمد، وعبدالإله، وعبدالخالق، نحن ستة.
رحمة: وهل أنت الأوسط بينهم؟
عبدالله سلام: أنا ترتيبي الثالث بينهم، عبده الأول، ثم فاطمة، ثم أنا.
رحمة: الآن دعنا نتحدث عن قريتكم، كم عدد سكانها؟ وبماذا اشتهرت؟ وتتبع أي مديرية؟ والمديرية تتبع أي قرية في فترة الخمسينيات؟
عبدالله سلام: مسقط الرأس الأساسي قرية "سقول" أو ما تُعرف بقرية "الأشاعر"، وعندما كان عمل الوالد في المصلى انتقل إلى السكن فيها، وهناك بنى سكنًا، والمصلى هي منطقة يجري فيها وادٍ كان اسمه القديم "ذي العرش"، ولاحظي أن أسماء المصلى والعرش موجودة أيضًا في رداع، وكأنها تكررت، ومسألة الأسماء وتكررها لها قصة أخرى. بالنسبة للمصلى، انتقلنا لها، ولا زلنا حتى الآن نسكن فيها، وقرية سقول والمصلى لا يبعد بينهما إلا حوالي 20 دقيقة مشيًا على الأقدام.
قرية سقول
رحمة: الآن نريد أن نعرف فترة نشأتك والتعليم، لأن الجذور الأولى هي التي توضح الصورة. ما رأيك أن تحدثنا عن السبع سنين الأولى، المعلامة التي درست فيها، وماذا تعلمت في تلك الفترة، وكيف كنت تذهب إليها، ووضعك مع زملائك؟ وهل كنت تتابع إذاعة أم لا؟ وما هي الإذاعة والصحف المشهورة حينها؟
عبدالله سلام: في فترة الطفولة الأولى، أتذكر أني مكثت في المعلامة فترة قصيرة جدًا، لأن الوالد قرر حينها نقلنا إلى مدينة عدن، وعندما بدأت في المعلامة، لا زلت عند "الحمد لله رب العالمين"، وكانوا يكتبونها باللوح، ولكن لم أكمل. وبالنسبة لزملائي الذين درسوا في معلامة القرية، كانوا يحفظون القرآن، وأنا في الحقيقة عندما بدأت في "الحمد لله" نُقلت إلى عدن، وكان سني ما بين خمس سنوات ونصف إلى ست سنوات.
رحمة: كنت لازلت في عمر صغير، وهل انتقلت العائلة بأكملها أم انتقلت أنت فقط إلى عدن؟
عبدالله سلام: أخي الأكبر كان قد انتقل من قبل، ودرس في مصافي البترول في عدن "بي بي"، ودرس كورس الصيانة الفنية، وكان متخصصًا بالخراطة "خراطة المعادن"، ثم بعد ذلك لحقت به، أما أختي الكبرى فقد ظلت في القرية.
رحمة: أريد أن أعرف أول صدمة حضارية تلقيتها، ومن المؤكد أن هناك صدمات وأشياء أذهلتك عندما انتقلت كطفل من الريف إلى مدينة كعدن؟
عبدالله سلام: كانت صدمة رهيبة بالنسبة لي، لأنني تعودت على القرية، جبال وطرق ووديان، وعندما وصلت رأيت في مدخل عدن الأضواء وشعلة المصافي التي كانت دائمًا مشتعلة، وكان يبهرني هذا المنظر كثيرًا، وكنت مثل البدوي في باريس، لم أستطع استيعاب الوضع الجديد، وحاولت التكيّف، ثم مكثت عند الوالد في البريقة فترة قصيرة، بعد ذلك رتب لي وضع عند أقارب لنا في التواهي حتى أظل عندهم، وهم لم يكن لديهم أبناء لأنهم توفوا جميعًا، فكانوا يحتضنون أقارب كثيرين من أجل الدراسة، وانتقلت بعد ذلك للعيش عند هذه الأسرة، وكان البعد عن الأب والأم حرمني من الحنان، وهنا يشعر المرء بالتعب في هذه الحياة، لأنه كان يعمل وكأنه مثل الشغالات.
التواهي في الخمسينات
رحمة (مقاطعة): يعيش في خوف وفي قلق، ولكن أنت، هل بدأت بالدراسة أم الشغل؟
عبدالله سلام: نحن كنا نعيش معهم مقابل أن نتعلم، فكنا نخدمهم.
رحمة: ثم بدأت بعد ذلك بالدراسة؟
عبدالله سلام: نعم، وأول ما بدأت دراسة الابتدائية كان في التواهي.
رحمة: نريد أن نعرف أول يوم مدرسة لطفل جاء من المصلى، وأخواله من الهسهوس، كيف تعامل في المدرسة؟ وماذا كان يرتدي؟
عبدالله سلام: كنت أهبل شوية وأنا صغير، وكان أولاد الأقران فوضويين، وأنا كنت مثل الغريب، وعليل من الناحية الصحية، ولاحظت كلما كبرت في السن كانت صحتي تتحسن.
رحمة: ماذا تقصد بعليل، أستاذ عبدالله؟
عبدالله سلام: كنت دائمًا ضعيفًا.
رحمة: هل المناعة كانت ضعيفة؟
عبدالله سلام: لا أعلم ما الذي كان بي، ولكن كنت مثلًا عندما أسافر القرية صعب أن اصعد الجبال وأمشي إلى الدار، كانت بنيتي ضعيفة، وليس كما هو الحال الآن، أنا أفضل.

رحمة: حدثنا عن أول يوم دراسي لك عندما رأيت الكراسي والسبورة والأساتذة.

عبدالله سلام: في أول يوم دخلت المدرسة وأنا في حالة فزع كبير، إلى حد أني انفجرت من البكاء، لأنه مجتمع غريب، ورغم أن الدراسة كانت في عدن ممتازة جدًا، لكني لم أكن متعودًا على حياة الدراسة الجماعية، وحتى في القرية قضيت أيامًا قليلة في المعلامة ثم غادرت. في سن التاسعة حدث لي موقف غريب طبع في حياتي كلها فيما بعد، وكنت في الحقيقة مظلومًا، ولكن أنا من جِيْز أصحابي، ما صابهم صابني كما قال المثل.
المدارس في عدن
رحمة: ما الذي حدث؟
عبدالله سلام: خرجنا في تلك الأيام، وأعتقد أنه كان أيام حرب السويس، أيام المد القومي الناصري وعبدالناصر، وأنا كنت لا أزال في ذلك الحين لست قادرًا على استيعاب الأبعاد السياسية، ولكن بمجرد السماع من الكبار الذين نعيش معهم عن عبدالناصر والعدوان الثلاثي إلى آخره.
رحمة: هذا يعني في عام 1963 أو 62؟
عبدالله سلام: نحن بالطبع ندخل إلى المدرسة في عدن بعمر سبع سنوات، ونكون أول ابتدائي، ويستمر النظام البريطاني أربع سنوات ابتدائية و ثلاث سنوات متوسطة، ثم ننتقل إلى الثانوية.
رحمة: هذا يعني أن عمرك كان في ذلك الوقت تسع سنوات؟
عبدالله سلام: نعم، تسع سنوات.
رحمة: وما هو الموقف الذي حدث؟
عبدالله سلام: بعد انتهاء دوام الدراسة خرج الطلبة، وأنا لا أعرف عبدالناصر، ولكن أسمع من الذين أعيش معهم، وخرج الطلبة يهتفون هتافات "عاش جمال عبدالناصر"، وكنت أمشي معهم ولم أكن أهتف، وكان هناك مدير مدرسة ذو شخصية طاغية رهيبة، كان عملاقًا فارع الطول وممتلئًا، وطلب هذا المدير من المدرسين إرجاع جميع الطلبة الذين كانوا يهتفون، وأرجعوني معهم، وجعلنا نقف في صف واحد في الطابق الثاني للمدرسة، وكانت فرائصنا ترتعد من الخوف، وكان يمر على الطلبة الذين حجزهم، ويلتفت إليَّ ويقول: حتى أنت يا قطة؟ قلت له: يا أستاذ، أنا لم أهتف. قال: وتحدثنا أيضًا، أنا رأيتك بعيني! طبعًا، أنا كنت بعيدًا خارج الحوش، بعد ذلك قام، وكان يحمل خيزرانًا، وضربني في يدي، ولا تزال آثار الضربة حتى الآن.

العدوان الثلاثي على مصر

رحمة: وكم عدد الجلدات التي تلقيتها؟
عبدالله سلام: كانت واحدة، لكنها كانت بقوة، وانتفخت يدي كأنها أصيبت بحريق، وكنت مفزوعًا وصحت، وبعد ذلك قال للطلبة: عودوا إلى منازلكم، ومرة أخرى إذا عملتم ذلك سأعاقبكم.
رحمة: وماذا عن الطلبة الآخرين؟ هل جلدهم مثل جلدك أم أكثر؟
عبدالله سلام: جميعهم تلقوا جلدة أو جلدتين، وتركهم جميعًا يعودون إلى البيت، وأبقاني، فقلت في نفسي: ماذا يريد؟ هل يريد ضربي من جديد؟ وبعد انتهاء الدوام قال: تعال معي. وكنا نسير، أنا وهو، على سور إلى ناحية بيته، وقال: أنت شاطر. وقال: أنا أريد أن أعيِّنك مراقبًا، وكان المراقب على الطلبة في تلك الأيام شيئًا كبيرًا، وكانوا يضعون على صدره ميدالية يسمونها "بيرفكت"، ويعني مراقب. وقال: لا تعمل فوضى. وأنا لم أعمل فوضى، لكنه كان يريد التبرير، وسرت معه حتى وصلنا إلى بيته، وبعدها دخل البيت ودخلت معه، وكانت موجودة زوجته، وكانت قصيرة، وقال لها: اعملي ايودين بيده، وكنت أرى هذا الرجل الرهيب الذي لا يستطيع أحد حتى الالتفات له، كان عندما يدخل المدرسة يسود الصمت وكأنه لا يوجد احد في المدرسة.
رحمة: ألا يوجد أحد يمكنه ايقافه عند حده؟ ألم يأتِ أخوك؟
عبدالله سلام: هو كان حازمًا جدًا.
رحمة: أي حازم هذا وقد تسبب في أذية يدك؟
عبدالله سلام: يدي ربما لأنها كانت رطبة، انتفخت، عموماً كانت زوجته تسير من جانبه وهي تلتفت له بعيونها، وكما يبدو كانت شخصية قوية، وتقول: يا خبيث! ثم قاموا بإعطائي بسكويت وشوكولاتة، وبعدها عدت إلى البيت.
رحمة: كيف أثرت عليك هذه الحادثة حتى اللحظة؟
عبدالله سلام: طبعًا في اليوم الثاني المدير وفّى بوعده وجعلني مراقبًا، والمراقب لا يقوم بالتنظيف في المدرسة. هذه الحادثة أثرت على نفسي في بقاء عبدالناصر لاصقًا في ذهني، وكنت أتساءل: من هو جمال عبدالناصر؟ وصادف أن عبده نعمان عطا، رحمه الله عليه، هو مؤسس الوجود الناصري في اليمن، وكان عندما يأتي إلى عدن يجلس عند الأسرة التي أقيم معها، لأنه توجد قرابة بينهم.
رحمة: هذا عندما كان عمرك تسع سنوات، نحن نريد أن نضبط العمر ونسير بخطوات.
عبدالله سلام: كان عمري حينها تسع أو عشر سنوات.
رحمة: دعنا قبل أن ننتقل للحديث عن الأستاذ عبده نعمان عطا، أسألك حول أبرز شيء وجدته أثناء دراستك. كيف كان الدوام المدرسي؟ وهل كنت تحصل على وجبات؟ وكيف كنت تشتغل وأنت تدرس؟
عبدالله سلام: المدرسة في عدن كانت في تلك الفترة أثناء الاستعمار البريطاني دراسة جادة وراقية جدًا، وكان الفصل لا يزيد عدد الطلبة فيه عن 12 طالبًا أو 13، وكان المدرس يهتم بكل طالب على حدة بسبب عدم وجود الازدحام، وكان هناك نظام، كانوا يسلمون الدفاتر والكتب من عندهم، وأذكر عندما كنا طلابًا كنا نغلف الدفتر بغلاف كاكي، وهم يعلموننا كيف نغلفه، وينتهي العام الدراسي والدفتر جديد وكأنه لم يمسكه أحد. وأذكر إلى الآن شكله، وكأنه جديد، لا يوجد فيه حتى خط واحد، وكانت الدراسة جيدة، والمدرسون مؤهلين ومعدين إعدادًا جيدًا تربويًا، وأفادتنا هذه المرحلة من الدراسة لأنها عودتنا على النظام والانضباط.
رحمة (مقاطعة): أستاذ عبدالله، أريد أن أسألك سؤالًا: عندما ذهبت إلى عدن وأنت القادم من الريف، هل زملاؤك - إذا كنت تتذكر - كانوا يقولون: هذا تعزي أو رعوي، أو كما يعملون الآن: هذا حجري، دبعي، صنعاني؟ هل هذه المسميات كانت موجودة في تلك الفترة؟
عبدالله سلام: هي كانت موجودة في تلك الفترة، ولكن في إطار الأطفال، ولم تكن سياسة موجهة.
رحمة: ماذا كانوا يقولون لك؟
عبدالله سلام: كانوا يقولون يا جبلي.
رحمة: هذا يعني منذ الخمسينيات، وكلمة "جبلي" كانت موجودة.
عبدالله سلام: جبلي وجبالية، ولم تكن تطلق علينا نحن فقط، حتى البدو الذين جاءوا من المحافظات الجنوبية كانوا يقولون عليهم البدو، حتى كان عندما يرون بدويًا يسيرون بعده بمظاهرة ويرددون: "يا بدوي يا أبو القنازع، يا بدوي أمك تنازع"، ويعملون له مشكلة. ونحن كانوا يسموننا جبالية، رغم أن الوالد استخرج لي شهادة ميلاد أنني من مواليد عدن حتى أستطيع أن أدرس في المدارس الحكومية مجانًا.
رحمة: هل كان هذا شكل التمييز الوحيد، أم كانت هناك أشكال أخرى للتمييز؟
عبدالله سلام: كان هذا هو التمييز الوحيد، وحتى هذا التمييز - إذا اعتبرناه كذلك - يتم بشكل ودي وليس عدائي، لأنني أتذكر الأسر العدنية وجيراننا، كانت العلاقات الإنسانية بينهم من أرقى ما يكون، ونحن كنا محسوبين شماليين جباليين، ولكن كانت العلاقات الإنسانية بين الأسر قوية، إذا أحد مرض أو هناك مأتم تجدين كل الأسر تلتف حولهم، يزورون بعضهم البعض في المناسبات ويهدون بعضهم البعض مأكولات وغيرها، بغض النظر عن أي شيء.
رحمة: طبعًا نحن عرفنا أن أول نشاط عام لك كان مراقبًا، الآن نريد أن نعرف أول نشاط سياسي لك، إذا اعتبرنا أن الضربة التي حدثت لك كانت بداية ناصريتك مثلًا.
عبدالله سلام: الحقيقة لا يوجد نشاط سياسي إلا فيما بعد.
رحمة: أريد أن أعرف نشاطك الأول.
عبدالله سلام: نحن عشنا في بيئة، صحيح أن جميعهم أميون، ولكن كان اهتمامهم بالشأن السياسي شيئًا عجيبًا، وكانوا دائمًا يتابعون الإذاعة من الراديو، ويتابعون "بي بي سي" - هيئة الإذاعة البريطانية - و"صوت العرب"، هذا كان شيئًا أساسيًا بالنسبة لهم، وكانوا يستمعون للأخبار ويتابعونها، وكانت هناك مجلات مصرية تصل في ذلك الوقت وتوزع في عدن.
اذاعة Bbc
رحمة: مثل ماذا؟
عبدالله سلام: مجلة "المصور"، "آخر ساعة"، "الأهرام"، "الأخبار"، وكان بعض الذين يقرؤون من السواقين، خصوصاً وان البيئة التي كنا فيها كانت بيئة أصحاب سيارات الأجرة، فكان بعض السائقين الذين يعرفون القراءة يحضرون هذه المجلات، وكنت أنا أقرأ قصاصات من غير أن أفهم، ولكن كانت مجالسهم خارج البيوت بسبب الحر، ويجلسون على أسرّة في الشوارع، وكان حديثهم كله يتمحور حول السياسة. وأنا أتذكر في غزوة خليج الخنازير في كوبا - لو تتذكري عندما حدثت الأزمة بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا - حصلت حينها على أول جائزة مالية من شخص مغترب جاء من السعودية، وهو من قريتنا الأحكوم، وكان يجلس عند الأسرة التي أقيم معها، وكنا نتغذى معًا في سفرة على الأرض، وكانوا يناقشون أزمة كوبا وزعيمها، وحاولوا أن يتذكروا اسمه، جميعهم لم يتذكروا، وأنا كنت آكل وعندها قلت لهم "كاسترو"، فرد المغترب وقال: برافو، وأعطاني خمسة شلن، كانت ثروة بالنسبة لي، لأنني كنت معدمًا لا يوجد لدي شيء، كنت أذهب إلى المدرسة وأشرب ماءً حارًا من الحنفية، لأنني لم أكن أملك المال لشراء مثلجات.
معركة خليج الخنازير
رحمة: قبل أن ننتقل إلى الناصرية والأستاذ عبده نعمان عطا، ما رأيك أن نعرف كيف تلقيت خبر ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر، أنت ومحيطك، وتحديدًا ثورة 26 سبتمبر وأنت في عدن، إذا كنت تتذكر؟
عبدالله سلام: عندما قامت الثورة كان عمري في حدود 12 عامًا، كنت أسمع فقط المحيط فينا من الأولين الذين كنا نعيش معهم عندما كانوا يتحدثون، ولكن كنت لا أزال في تلك الفترة لا أستوعب ماذا تعني ثورة، وكنت أسمعهم وهم يستمعون إلى إذاعة صنعاء على الراديو، وأذكر خطابات الإمام أحمد وهو يقول: "يا شعبي العزيز..."، وبعد ذلك قالوا قامت الثورة، ولم أكن أفهم ماذا تعني "قامت الثورة" وقامت على من، لم يكن حينها لدي وعي، إلا بعد ذلك تطورت المدارك مع المعايشة في المحيط، لأنه كان كله سياسي، الشعب اليمني كان اهتمامه وشغله كله في السياسة، حتى لو كان الغالبية الساحقة منهم أميين، لا يقرؤون ولا يكتبون، ولكنهم كانوا يستمعون إلى الإذاعة.
بيان ثورة سبتمبر
رحمة: "صوت العرب" و"البي بي سي" هما اللتان كونتا خبرتهم السياسية وشغفهم السياسي.
عبدالله سلام: بالفعل، وأتذكر في القرية، يصلي الناس المغرب ويتناولون العشاء ثم ينامون بعد ذلك، وكانوا قبل ذلك يجلسون في زاوية سقوف المنازل، وبالطبع المنازل بينها مسافات، وكانوا يتبادلون الأخبار فيما بينهم بصوت عالٍ، كانوا يقولون: هل سمعت "صوت العرب" ماذا قالت؟ هل سمعت "اذاعة لندن"؟ وكأننا في منتدى سياسي ثقافي، كان شيئًا عجيبًا. الآن لا يوجد ذلك المناخ السائد في تلك الأيام، الجيل الجديد، وبالذات الجيل الحاضر، لم يعد له اهتمام، الأولون كان لديهم تفاعل واهتمام عجيب.
مبنى إذاعة صوت العرب
رحمة: إذا كانوا اهتموا بالثورة الكوبية، فمن المؤكد أنهم اهتموا بثورة 26 سبتمبر بشكل أكبر، وفيما يخص ثورة 14 أكتوبر، هل تتذكر كيف تعامل المحيط معها؟ كيف كانوا فرحين؟ ماذا خرجتم تفعلون؟ كيف تلقيت الخبر لأول مرة؟ الأسرة التي كنت تعيش عندهم، كيف تعاملوا مع هذا الخبر؟
عبدالله سلام: بالنسبة لثورة 26 سبتمبر، تفاعل معها المواطنون الذين كانوا في عدن، ويرجع السبب إلى أن معظم المواطنين الذين كانوا هناك هم من العمال الشماليين، وفي المحافظات الأخرى كان هناك اهتمام. أتذكر الاتحاد العمالي الذي كان يرأسه عبدالله الأصنج، رحمه الله، وهو الذي أسس حزب الشعب الاشتراكي، وكان يبدو متأثرًا إلى حد ما بالبعث، وكان هو زعيم الاتحاد العمالي هو ومحمد سالم باسندوة وسالم علي، وقام اتحاد العمال بمبادرة وجهز شبابًا من الذين لديهم رغبة للذهاب إلى الشمال للدفاع عن الثورة والجمهورية، وذهبوا بأعداد كبيرة، وكان لديهم حماس، أذكر أشخاصًا ذهبوا وكانوا متخرجين من كليات عسكرية وغيرها.
عبدالله الأصنج
رحمة: بالذات بعد زيارة الرئيس جمال عبدالناصر، عندما وجّه خطابه الشهير الذي قال فيه: "على بريطانيا أن تأخذ عصاها وترحل"، ومنذ ذلك بدأ التدريب والتأهيل؟
عبدالله سلام: أذكر هذا الموقف تمامًا.
رحمة: كم كان عمرك؟ وكيف تابعت خطاب الرئيس جمال عبدالناصر؟
عبدالله سلام: عبدالناصر جاء إلى تعز في عام 1964، ألقى خطابًا، وكنت أسمعه، ولاحظت الناس وهم يريدون الذهاب إلى تعز من أجل رؤية جمال عبدالناصر بأعينهم، وذهب الجميع، لدرجة أننا لم نعد نرى سيارات في الشوارع، وأقسم لك أن هناك من العمال الذين كنت أعرفهم ذهبوا إلى تعز مشيًا على الأقدام لأنهم لم يجدوا سيارات، وتدفقت حشود كبيرة من عدن، ومن الطريق التي تؤدي من عدن إلى تعز، ومن ريف تعز، ومن محافظات أخرى، وكانه حدث تاريخي مهم، ترك الناس أعمالهم ولم يهتموا إن قُطعت من مرتباتهم.
جمال عبدالناصر اثناء زيارة تعز
رحمة: وعملت الثورة تغييرًا فيما يتعلق بتوحيد الجهود بشمال اليمن وجنوبه ضد البريطانيين.

عبدالله سلام: كانت الثورة في 14 أكتوبر بدأت في 1963، وكانت بدايتها غالبًا في محميات عدن الغربية والشرقية، والغربية بالذات لأنها الأقرب إلى عدن، محمية عدن الشرقية كانت حضرموت والمهرة وسلطنة الواحدي وغيرها، ثم تصاعدت الثورة وامتدت إلى عدن، وكانت هناك عمليات فدائية. وأتذكر أننا كنا ندرس في المعهد الفني الذي قضيت فيه عامًا عقب المتوسطة، وانتقل سكني بعدها من التواهي إلى بيت أخي وصهري في المنصورة.

رحمة: وأنت الذي اخترت أن تدرس في المعهد الفني أم فُرض عليك؟ ولماذا؟

عبدالله سلام: نتيجة الامتحان، لأنه حدثت امتحانات بعد المتوسطة، هناك طلاب كانوا ينتقلون إلى كلية عدن، وهي مشهورة جدًا، وكانت للأذكياء، ولكن كان يُوزَّع الطلبة وفقًا لتفوقهم في المواد، بعضهم الذين يجيدون اللغة الإنجليزية تمامًا والمواد الأخرى كانوا يذهبون إلى كلية عدن، والذين يجيدون الرياضيات وغيرها، نحن ذهبنا إلى المعهد الفني "التكنيك كوليج"، وبقيت فيه سنة، وكانت هناك اضطرابات طلابية.
رحمة: وما الذي درسته في المعهد الفني، أستاذ عبدالله؟
عبدالله سلام: درست النجارة.
رحمة: وهذه قبعة أخرى للأستاذ عبدالله سلام غير القبعات المتعددة.
عبدالله سلام: في الأول كانوا يسمونها "G.C.E Building"، شهادة الثانوية العامة حقهم، وهناك "G.C.E Mechanic" كهرباء وحدادة وغيرها، أنا ذهبت إلى Building وهي النجارة، وفيها تخطيط لمباني وأشياء من هذا القبيل.
رحمة: وكيف انتقلت من النجارة إلى السياسة؟ وكيف تعمقت ناصريتك بعد ضربة الخيزران وبعد خطاب الرئيس جمال عبدالناصر؟
عبدالله سلام: أريد أن أقول شيئًا قبل أن أتحدث حول سؤالك، وهو أننا كنا عندما نمشي بالباص من المنصورة إلى المعلا، كان هناك نقطة عسكرية للجنود البريطانيين يوقفون باص الطلبة ويفتشونه، وكانوا يدخلون الطلبة بممازحة مع البريطانيين، وأحيانًا يريدون أن يدخلوا بمضاربة معهم ليروا من هو الأقوى. حتى الاستعمار لم يكن بتلك الشراسة إلا فيما يتعلق بمواجهة الأحداث، وعندما بدأت الاضطرابات وأُغلقت المدارس لفترة، انتقلتُ إلى صنعاء في البداية.
رحمة: متى ذهبتَ إلى صنعاء؟
عبدالله سلام: في سنة 1965 أو 1966 تقريبًا، مع بعض الطلبة الذين كانوا في عدن.
رحمة: هل كانت رحلة؟
عبدالله سلام: لا، ولكننا كنا نبحث عن منح دراسية للدراسة في الخارج.
رحمة: كيف في 65 هناك منح في صنعاء ولم يكن هناك في عدن؟
عبدالله سلام: في عدن كانت كلية عدن هي آخر المطاف، والكليات المناظرة لها في الثانوية العامة يخرجون بشهادة "جي. إس. إي"، والمتميزون كانوا يأخذونهم ويبعثونهم إلى السودان وبيروت، ولكن نحن لم نكمل في عدن مع الاضطرابات التي بدأت وكانت تُغلق المدارس، ثم ذهبنا للبحث عن منح في صنعاء، وكانت أول مرة نذهب فيها إلى صنعاء.
رحمة: نريد أن نعرف انطباعك عندما ذهبت إلى صنعاء، كيف كانت؟
عبدالله سلام: مجتمع صنعاء في الحقيقة كان صدمة كبيرة جدًا بالنسبة لنا، لأننا اعتدنا في عدن على النظام البريطاني الدقيق إداريًا وماليًا. كنا نرى الموظف في عدن لا توجد هناك مراجعة، يراجع المسؤول أو يذهب ليأخذ مرتبه، بل كان مرتبه يُوصل في ظرف إلى مكتبه وبيان حوله، ويكمل الموظف عمله وهو لا يعرف من هو المسؤول عنه.
صنعاء
رحمة: وفي صنعاء، كيف كانوا يحصلون على الرواتب في عام 1965؟
عبدالله سلام: نحن جئنا على عالم غريب، وكان اختلاف المناهج الدراسية بين عدن وصنعاء سبب لنا عائقًا كبيرًا. لكن الشاهد أننا كنا نعتقد أن الإدارة في صنعاء مثل الإدارة في عدن، منضبطة ولا توجد فيها مجاملة أو عبث أو فساد. وأول ما كنا نقدم طلب أننا نريد منحًا، نرى المسؤول يكتب "حسب النظام واللازم"، وقلنا الله أكبر! وبعدها اكتشفنا أن "حسب النظام واللازم" بمعنى: "اخلص منه"! وبعد ذلك جلسنا بحدود شهر إلى ثلاثة شهور ونحن نبحث عن "النظام واللازم".
وصُدفة ونحن في باب اليمن التقينا بشخص "حكيمي" كان من الذين في خط الناقلات التي تنقل البضائع من عدن إلى صنعاء وتعز، وكان شخصًا مشهورًا وله علاقة بالمسؤولين في صنعاء وبأسرة الإمام، وكان "شريب" من الدرجة الأولى، لكنه كان رجلًا طيبًا. سألنا: ماذا تعملون هنا؟ قلنا له إننا نبحث عن منح. قال: ماذا قالوا لكم؟ قلنا له: نذهب إلى وزارة التربية والتعليم ويقولون لنا "حسب النظام واللازم"، ثم يضيع "النظام واللازم"! قال: من هو المسؤول؟ وقلنا له: فلان. ثم ذهب إليه وكان يشتمه، وأنا كنت أحاول إسكاتَه، فقال: اذهبوا. ثم ذهبنا اليوم الثاني، وعرفنا ما هي قضية "النظام واللازم".
قال: قدموا طلبًا، ورأينا أن المقابلة اختلفت، وقال إننا جئنا متأخرين وقد خلصت المنح، ثم سلّمنا الورقة، ولم يكن مكتوب عليها بحسب "النظام واللازم"! وكان ينظر إليها من كل الجهات ويبحث عن "النظام واللازم" ولم يجده، فاهتموا بنا، ثم بعد ذلك عدتُ إلى تعز، وأخذتُ الإعدادية من مدرسة الكويت، ثم سافرت إلى عدن مرة أخرى والتحقتُ بكلية بلقيس لمدة عام.
تعز
رحمة: وماذا كنت تدرس في كلية بلقيس؟ هل نجارة أيضًا؟
عبدالله سلام: لا، ذلك كان معهدًا فنيًا، درست في كلية بلقيس أول ثانوي.
رحمة: ومن كان ينفق عليك في تلك الفترة؟
عبدالله سلام: كان أخي الأكبر، لأنه كان يعمل، وهو الذي اهتم بي.
رحمة: ألم تعمل، أستاذ عبدالله، خلال فترة الثانوية؟
عبدالله سلام: لا، لم أعمل كثيرًا في الحقيقة، ولكن بعد كلية بلقيس وجدت المنهج العراقي صعبًا جدًا وفوق المستوى، وعدت إلى تعز مرة أخرى، وأخذت الثانوية العامة سنة أولى وثانية وثالثة في مدرسة الثورة الثانوية.
رحمة: هل كنت في القسم الأدبي أم العلمي؟
عبدالله سلام: أنا كنت في القسم الأدبي، وللعلم، أنا لديّ خصومة مع الأرقام والحسابات، وتصوري في هذا السن عندما أذهب إلى الدكان لا أعرف أحسب! أكره الأرقام وأكره الفلوس.
رحمة: عندما وصلت إلى الثانوية حتى الآن لا يوجد نشاط سياسي، وأنت كنت ستتحدث عن الأستاذ عبده نعمان عطا وقمت بتأجيله إلى أن نتحدث عن الدراسة الابتدائية والإعدادية، الآن هل نبدأ النشاط السياسي أم نتركه إلى ما بعد الجامعة؟
عبدالله سلام: بالنسبة للنشاط السياسي الحزبي الرسمي بدأ في سنة 1969، وعمري 19 عامًا، عندما التزمت رسميًا. هناك مفارقة عجيبة كيف دخلت العمل الحزبي التنظيم الناصري السري. أنا كنت اعتقد أن الناصريين لديهم حزب. في ذلك الحين كنت أنا في عدن بعد إزاحة قحطان الشعبي، ثم صعد الجيش ومحمد علي هيثم، وكان هناك صراع بين الجيش ومحمد علي هيثم والجناح اليساري في الجبهة القومية.
كنت أميل عاطفيًا وبدون سبب إلى محمد علي هيثم كثيرًا، و أتابع الأخبار عن طريق الزملاء أن الجماعة يتآمرون عليه من أجل تصفيته في عدن، وكان عندي انطباع أن محمد علي هيثم ناصري، وهو كان رئيس وزراء في عدن. فقمتُ وشددت الرحال إلى تعز أبحث عن الناصريين لأخبرهم أن محمد علي هيثم في خطر ويجب أن يدعموه ويقفوا معه.

محمد علي هيثم ــ منصات

وذهبت أبحث عن التنظيم الشعبي ولا أعرف من هو حتى أبحث عن نصرة لمحمد علي هيثم، ووصلت إلى عبدالله قاسم الدبعي - ولا أعرف مصيره حتى الآن - وهاشم علي عابد، وعبدالهادي علي حمدي، ومحمد عبدالله الصغير رحمه الله، الذي كان لديهم الكهربائيات "أولاد الصغير".
وبعد ذلك تلقفونا، وأخبرتهم أنني جئت أبحث عن الناصريين. دلّوني عليهم، قالوا: ماذا تريد منهم؟ وكانوا يعملون عملية استكشاف لما أريده بالضبط. أخبرتهم بالصراع الحاصل في عدن وأن محمد علي هيثم في خطر وأريد من الناصريين أن يدعموه. قالوا لي: لماذا تريد الناصريين أن يدعموه؟ قلت لهم: لأنهم يقولون إنه ناصري وقومي! فبدأوا يستقطبونني بدل أن أستقطبهم لمحمد علي هيثم.
رحمة: هذا كان ذلك في عام 1969 وعمرك 19 عامًا؟
عبدالله سلام: التزمت في أبريل عام 1969.
رحمة: وما هي قصة الأستاذ عبده نعمان عطا؟
عبدالله سلام: عبده نعمان عطا كان يمر على الأسرة التي كنت أقيم عندها في التواهي خلال مرحلة المتوسطة في عدن. وكان عبده نعمان عطا قد جاء بعد تخرجه من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل في عدن في مدرسة يسمونها "مدرسة البادري"، وهي مدرسة إرسالية مسيحية وكان التعليم فيها راقيًا.
عبده نعمان عطا
وكان عبده نعمان عطا لديه لغة إنجليزية بالإضافة إلى الفرنسية، وهو متمكن من اللغتين، إضافة إلى أنه خريج اقتصاد وعلوم سياسية، ودرس اللغة الإنجليزية في "البادري" ولديه نشاط سياسي. كنت أراه يذهب إلى أسر عدنية هنا وهناك وكان يتحدث دائمًا عن عبدالناصر، وكان عندما يأتي إلى البيت الذي أجلس فيه يحدثني على قدر عقلي، وكان يتحدث اللهجة المصرية، ويقول لي: "إيه يا وله، بتحب جمال عبدالناصر؟" وقد تأثر باللهجة بسبب عيشته هناك.
مدرسة البادري في التواهي
وكان يمهد لنا بهذه الطريقة، وهو تقريبًا المؤسس الأول للنشاط الناصري المنظم بأشكاله الأولية. مر بعدة أشكال تنظيمية من "تنظيم القوى الثورية العربية" إلى "الطليعة العربية"، وكان مهتمًا بالتنظيم الشعبي للقوى الثورية التابع لجبهة التحرير. وكنت أرى أنه يأتي إليه من القادة الجنوبيين مثل راجح غالب لبوزة، وخليل بن عبدالله المجعلي رحمه الله، الذي كان قائد جيش التحرير التابع لجبهة التحرير، وكان من قبل في الجبهة القومية. وكان عبده نعمان عطا يهتم بنا لأن مداركنا السياسية بدأت تتطور.
رحمة: ومن كان يعمل مع عبده نعمان عطا؟ لأنه لا يمكن أنه كان يعمل لوحده وهو الذي يقوم بالتوسيع والاستقطاب للتنظيم الناصري، ومن المؤكد أن هناك شخصيات بارزة تعمل معه.
عبدالله سلام: كثير من الشخصيات، أذكر منهم عبدالله قاسم الدبعي، وهاشم علي عابد. أيضًا في الحقيقة تأثرت بشخص تأثيرًا كبيرًا جدًا في الأسلوب الحزبي وأسلوب الإلقاء الحواري، وهو كان أول مسؤول لخلّيتنا، وهو عبداللطيف علي الشرجبي رحمه الله. كان هذا أول قائد لنا وطبع حياتنا اللاحقة بأسلوبه. كان لديه أسلوب بديع في الإلقاء والحوار، وكان دائمًا يتحدث باللغة العربية الفصحى، حاضر الذهن، وكان كلما نلتقي في الخلية نجلس نستمع لعبداللطيف علي ونتأثر بأسلوبه كثيرًا، لقد كان قدوة. وكانت أول خلية دخلنا فيها أنا وعبده الجندي وآخر صاحب سيارة تاكسي اسمه عبده علي نصر، هو تقريبًا شرعبي أو مخلافي.

عبداللطيف علي الشرجبي

رحمة: نحن الآن نتحدث عن عام 1969؟
عبدالله سلام: بعد التزامي بالتنظيم الناصري الذي كان في عام 1969.
رحمة: وكانت هناك أول خلية، وكان فيها عبداللطيف الشرجبي، والأستاذ عبده الجندي، وسائق تاكسي اسمه عبده علي نصر؟
عبدالله سلام: وأيضًا ضابط من مأرب اسمه علي بن علي الحليسي.
رحمة: جميل جدًا أن ننصف الآخرين، ولكن حدثنا ما هو العمل أو النشاط الذي كنتم تقومون به؟
عبدالله سلام: كان التهيئة لنا فكريًا وسياسيًا، ويدربوننا على إجراءات الأمن: أمن الحديث، وأمن التلفون، وأمن الاجتماع، والتخلص من الرقابة، ومعرفة هل أنت مراقب أم لا، وكيف تتخلص من الرقابة. كان التنظيم في الحقيقة بديعًا جدًا، وكنت أشعر أنه أضاف لي أشياء كثيرة، بالإضافة إلى البرنامج الثقافي، سواء التثقيف الإلزامي أو التثقيف الحر الذاتي.
وكان هناك اختبارات لنا في كيفية الخوض في النقاشات، وأمن الحديث في الاجتماعات العامة وفي المقايل وغيرها، وكذلك الاستكشاف، كيف تستكشف العناصر وتتفاعل معها وتحاورها. وكان من ضمن الأشياء البديعة التي كانوا يدرّسونها ويدرّبون عليها أنه إذا وجدت نفسك في مقيل أو اجتماع، لا تجادل مصنَّفًا - بمعنى شخص لديه اتجاه معين - لأن الجدل معه غير مجدٍ، إلا إذا وجدت نفسك في جماعة من الناس وخفت أن يؤثر عليهم، لا بأس أن تدخل، ولكن إذا كان الجو مصنَّفًا فلا داعي للدخول في جدل عقيم. واستفدنا كثيرًا كيف نتعامل مع المخبرين وأجهزة الأمن.
رحمة: وهل كانت هناك ملازم حينها أم كتب معينة يوصون بقراءتها؟
عبدالله سلام: لو أقول لك على التجربة هذه، أثرت فينا كثيرًا، لأنها كانت أول تجربة من هذا النوع، وكان هناك نشرات يسمونها "نشرات الأمن"، وهي عبارة عن عدة نشرات، كل نشرة تتحدث عن كيفية التعامل مع الأمن، التلفون، والاجتماع، وغيرها. ومن فرط السرية المشددين عليها كنا نخاف أن تسقط أو تضيع، فكنا نقوم بثنيها الى قطع صغيرة وإخفائها في الملابس الداخلية.
رحمة: وهذا الحرص حتى لا يأخذها أحد، أليس كذلك؟ أو تكتشفها الأجهزة الأمنية؟
عبدالله سلام: خوفًا من أن ننام وتسقط علينا! كان هناك حرص على السرية إلى أقصى الحدود.
رحمة: نحن سنقيم كيف تعاملت الإدارة السياسية مع التنظيم الناصري، ولكن لديّ سؤال: ما هو التنظيم السري الآخر الذي كان ينافسكم أو كان موجودًا بشكل كبير في تلك الفترة، مثل تنظيم الإخوان أو البعث، وكان مصنَّفًا كما كنتم تطلقون عليهم؟
عبدالله سلام: الإخوان المسلمون لم يكن لهم ظهور بارز في تلك الفترة، ولم نلمس أن لهم حضورًا كبيرًا، ولكن كان الصراع يدور أساسًا ما بين الناصريين والفصائل اليسارية التي كانت امتدادًا لحركة القوميين العرب، الذين كان يسميهم عبده نعمان عطا "الحركيين" أو "الحركوش"، والبعث.
رحمة: وجبهة التحرير، ألم يكن هناك أي تقارب أو اختلاف يُذكر؟
عبدالله سلام: جبهة التحرير كانت في الحقيقة محسوبة على البعث والناصريين، والجبهة القومية محسوبة على "الحركيين" - حركة القوميين العرب - والأحزاب التي تطورت منها: الحزب الديمقراطي الثوري، وحزب العمل، وحزب المقاومين الثوريين، وحزب الطليعة الشعبية الذي انفصل عن البعث.
رحمة: نحن الآن سنتحدث عن تجربة عبدالله سلام الحكيمي وكذلك التنظيم الناصري في ظل الإدارة السياسية التي حكمت اليمن بعد ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر. نبدأ من الشمال والجنوب ونترك لك المجال، بمعنى من الرئيس السلال وقحطان الشعبي، وسأستمع إليك.
عبدالله سلام: بالنسبة لثورة 26 سبتمبر، هي كانت أول انفجار مدوٍّ يلفت الأنظار بشكل عام حولها، وكان أول تغيير في اليمن شمالًا وجنوبًا، وذلك بعد فترة من قيام ثورة 48 والأحداث التي حدثت في تعز والثلايا والإمام وقُمعت بعد ذلك.
لكن 26 سبتمبر كانت في الحقيقة أيقظت شعورًا وطنيًا مكبوتًا كان يريد أن ينطلق ويتحرر من الانغلاق الذي كان سائدًا، وحصل التفاف كبير، خاصة وأن ثورة 26 سبتمبر تناغمت وتواشجت وتمازجت مع ثورة 23 يوليو في مصر وعبدالناصر والمدّ القومي الناصري، وكانت في الحقيقة تعتبر رافدًا من روافد المدّ القومي الذي ساد المنطقة العربية كلها.
ولا شك أن التحديات التي أعقبتها شكّلت كوابح إلى حد ما في إنجاز مهامها حسب الأهداف التي حددتها، لأن هناك التدخل السعودي وكان متوقعًا، ومن تجربة اليمنيين في 48 كان تدخلًا سعوديًا واضحًا. وعلى الرغم من أن ثورة 48 كانت الإمامة موجودة، ولم تكن مشكلة كبيرة، إلا أن السعودية تدخلت. وبعد ذلك، وجود القوات المصرية، كان الناس يعتبرون المصريين وكأنهم المنقذين، ويحظون باحترام كبير. وكان الناس في الأرياف وحتى المدرسين والأطباء يتسابقون على استضافتهم، وكان هناك تفاعل كبير جدًا غير معهود من قبل.
قوات مصرية في صنعاء
رحمة: وفرح بالمصريين بشكل كبير، ولكن هناك سؤال للتاريخ وللأجيال الجديدة، ومن المؤكد أنهم يريدون أن يعرفوا - حتى أنا لا أستطيع أن أفهم لماذا حدث هذا - هل صحيح أن اليمنيين انقلبوا على المصريين الذين ساهموا أو ساعدوا اليمنيين في التحرر من الإمامة؟ ولماذا قتلوهم في الشوارع واستهدفوهم؟
عبدالله سلام: هذه في الحقيقة أحداث حدثت بعد نكسة خمسة يونيو عام 1967، اضطر الجيش المصري إلى الرجوع، لأن الخطر الدائم كان هناك. وحتى حرب 67 كانت بتنسيق وتفاهمات إقليمية ودولية مع أمريكا وإسرائيل على أساس ضرب الجيش المصري في مصر مع انشغاله في اليمن. وشكّلت نقطة انكسار لهذه الثورة التي - كما قال الملك فيصل - إن عبدالناصر كان يشاركنا الحكم في قصورنا، وهذا كان صحيحًا، لأن التأثير الشعبي الذي حصل كان شيئًا ملفتًا وحدثًا تاريخيًا لم يُعهد له مثيل من قبل.
رحمة: ولكن لماذا اليمنيون قتلوا المصريين؟
عبدالله سلام: هذه في الحقيقة - كما قال الفريق محمد فوزي رحمه الله، الذي كان يشرف على انسحاب القوات المصرية من اليمن - سماها "نقطة سوداء في صفحة اليمن البيضاء". وهذه في الحقيقة كانت لأحقاد حزبية، القوى التي دبّرتها كان فيها حساسيات: قضية بعث وما بعث، وأشياء من هذا القبيل. واعتبروا أن خروج القوات المصرية يتيح لهم المجال في الحكم وأن يكونوا البديل. ولهذا حدثت بعد هذه الحادثة حركة خمسة نوفمبر، والذين قاموا بها هم الذين دبّروا الأحداث هذه. وللأسف، حتى في بناء القوة الثورية التي كانت من اليساريين مثل حركة القوميين العرب والجماعات المنتمية لها الذين شاركوا في كسر حصار صنعاء، كان لهم ضلع في هذا، لأنهم اعتبروا الوجود المصري كأنه يشكّل كابحًا لطموحاتهم السياسية.
رحمة: نحن الآن فهمنا الأسباب، ولكن حقًا أستاذ عبدالله، لم أفهم الأحداث. الأسباب أنهم قرروا أن يتخلصوا من الوجود المصري، وأن يكسروا الجيش المصري، ويكسروا ثورة جمال عبدالناصر وغيره. فما هي الأحداث التي أثارها الداخل وأدت إلى استهداف المصريين أو القوات المصرية التي أتت لمساعدة اليمنيين على التحرر من الحكم الإمامي البائد؟
عبدالله سلام: كما قلت، إن هذه الأحداث لم تكن بذلك النطاق الواسع بحيث تكون أحداثًا عامة يُستهدف فيها المصريون جميعًا، بل كانت أحداثًا محدودة، ولكن كان هناك استنكار شعبي واسع النطاق، والناس الذين عاشوا هذه المرحلة كانوا مستائين، حتى بعض الرموز اليمنية وقفوا ضد هذه الممارسات، وكان لهم دور في القول: ما هكذا يُرَد الجميل.

القوات المصرية اثناء تدريب القوات الجمهورية

رحمة: الآن ننتقل إلى حصار السبعين، ماذا تذكر عن حصار السبعين حينها؟ وكنت شابًا وقتها؟
عبد الله سلام: حصار السبعين في الحقيقة أهم ما كان يدور في بالي أنه نتيجة لما آل إليه الأمر، وهو يعبر عن أجندات وحسابات القوى الإقليمية المتدخلة في هذا الصراع. كانت القوات الملكية المحسوبة على الملكيين حول صنعاء في النهدين وعَصْر، وتقريبًا حوصرت صنعاء من كل الجهات. ويُروى أن أحد أسرة آل حميد الدين، الذي كان يقود الجبهات في عَصْر، كان ينظر في الناظور ويقول: بيتنا هنا وبيت آخر هناك. فقال له أحد المشائخ من الذين كانوا كقوى داعمة لهم: أنت تراها قريبة، وأعتقد أنها بعيدة جدًا. وكانوا يريدون أن يوصلوا رسالة مفادها: عندما تربط مصيرك بقوة خارجية وتسلم لها بكل شيء، ستخذلك في النهاية، لأنها لا تحتاجك، لأنه قد تصلب عودك فتقضي عليك، لتأتي قوى أخرى مطواعة تشكلها كما تريد.
رحمة: وفي الأخير، لن يكون الخارج حريصًا عليك كما هو الداخل، ولكن كيف نرفض التدخل السعودي وهم جيراننا، ونقبل بالتدخل المصري ومصر بعيدة عنا، إذا قررنا أن ننصف الأطراف كلها؟
عبد الله سلام: هناك فرق بين التدخل المصري في ذاك الزمن، في فترة عبدالناصر، فقد كانت هناك ثورة عربية منتشرة ومتوسعة، وكان هناك مدٌّ قومي له منطلقات فكرية، أيديولوجية، عقائدية معينة في مسألة الوحدة العربية، وكان لديه مشروع التفت حوله الجماهير. أما بالنسبة للسعودية، فليس لديها مشروع، هي فقط تريد أن تسيطر، وتعتقد - للأسف الشديد، وهذا خطأ ارتكبوه - أن قيام دولة يمنية قوية تهديدٌ لهم، وبالتالي يعملون على أن تظل اليمن ضعيفة، إما بتمزيقها أو بإثارة الفتن داخلها، أو يعوقوا، أو يحولوا، أو يكبحوا أي مسعى لإقامة يمن قوي متطور مستقل، لأن هناك فرقًا بين أن تكون لديك علاقة ممتازة بالسعودية أو بغيرها، وبين أن تكون تابعًا.
رحمة: صحيح، وكثير من المتدخلين يتعاملون معك كتابع. ونبدأ بعد حصار السبعين والسلال، ما الذي تتذكره خلال تلك الفترة كعضو في خلية ناصرية سرية؟ نريد أن نقيم الإدارات السياسية: كيف تعاملت مع التنظيم الناصري؟ وتجربتك معهم؟ ونركز على فترة الرئيس إبراهيم الحمدي، لأن هذه الفترة عبدالله سلام الحكيمي يستطيع أن يروي عنها الكثير، ولكن في الحلقة القادمة.
مشاهدينا، تعرفنا على الجذور الأولى للأستاذ عبدالله سلام الحكيمي، وكيف تنقل بين المصلى والأحكوم وتعز وعدن وصنعاء، وكيف عاصر تحولات سياسية مختلفة. في الحلقة القادمة سنقيم أداء الإدارات السياسية المتعاقبة بحكم أنه عاصرهم جميعًا، وتحديدًا فترة إبراهيم الحمدي. نلقاكم في الحلقة القادمة.
ينشر هذا الحوار بالتزامن مع بثه على قناة "حكايتي" على يوتيوب، إعداد وتقديم الإعلامية رحمة حجيرة. لمشاهدة الحلقة (اضغط هنا)

الكلمات الدلالية