صنعاء 19C امطار خفيفة

التعليم في اليمن.. الطريق المنسي إلى السلام المستدام

التعليم في اليمن.. الطريق المنسي إلى السلام المستدام
التعليم في اليمن ــ منصات

احتفل العالم في العاشر من نوفمبر الجاري باليوم العالمي للعلوم من أجل السلام والتنمية، وهي مناسبة تلفت الأنظار إلى الدور الحيوي الذي يؤديه العلم في المجتمع، وإلى ضرورة إشراك جمهور أوسع في النقاشات المتصلة بالقضايا العلمية المستجدة، مع التأكيد على مكانة العلم في حياتنا اليومية.

ووفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، يهدف يوم العلوم العالمي إلى إبراز الدور الذي يضطلع به العلماء في توسيع فهمنا للعالم، وفي تعزيز استدامة المجتمعات.
وتحاول “النداء” من خلال لقاءات مقتضبة مع عدد من العلماء والخبراء اليمنيين المتخصصين في علوم الحضارة وجودة التعليم وبناء السلام، الإضاءة على أهمية مثل هذه النقاشات التي تُبرز دور العلم في بناء السلام المنشود الذي يتطلع إليه اليمنيون بعد سنوات طويلة من الحروب التي أنهكتهم واستنزفت قدراتهم العقلية والبدنية.

خسارة للسنوات والأجيال

يرى البروفيسور شاكر الأشول - خبير جودة التعليم - وجود علاقة وثيقة بين الحرب والعزوف عن التعليم في اليمن، معتبرًا أن العزوف عن التعليم نتيجة طبيعية لظروف الحرب والأوضاع الاقتصادية المتدهورة.
ويشير في حديثه لـ“النداء” إلى أن هذا العزوف يوفّر وقودًا بشريًا لآلة الحرب، ويُطيل أمد الصراع، موضحًا أن الحرب لا تستمر بالسلاح فحسب، بل بالشباب الذين لا يجدون أمامهم سوى ساحات القتال بعد تلاشي بدائل التعليم وفرص الحياة.
البروفيسور شاكر الأهدل
ويؤكد الأشول - وهو مدير المعهد العالمي للدراسات الاستراتيجية - أن انقطاع جيل كامل عن التعليم لا يعني خسارة سنوات دراسية فقط، بل خسارة أجيال كاملة كانت قادرة على بناء الاقتصاد وإدارة المؤسسات وتأسيس مجتمع منتج ومتحضر. كما يفتح العزوف عن التعليم الباب أمام مزيد من التطرف والتهميش، حيث يجد الشباب أنفسهم منجذبين إلى العصابات والمليشيات بوصفها الخيار الوحيد المتاح.
هذا الطرح ينسجم مع رؤية البروفيسور موسى علايه، الأكاديمي اليمني وأستاذ التنمية وبناء السلام بجامعة رادبود نايميخن الهولندية، الذي يؤكد أنه لا يمكن بناء سلام حقيقي في اليمن ما لم يُعاد الاعتبار للتعليم بوصفه الركيزة الأولى لبناء الإنسان والعقل الوطني المشترك.
ويقول علايه لـ"النداء" إن التعليم هو الغرس الأول لقيم التفكير والمواطنة والاحترام المتبادل، وهو الأداة القادرة على تحويل ثقافة العنف إلى ثقافة الحوار، والثقافة الاتّباعية إلى روح المبادرة والمسؤولية.
ويضيف: «الواقع اليمني اليوم يعكس أزمة تعليمية عميقة، لا تكمن فقط في البنية التحتية أو الموارد، بل في الفلسفة التي تحكم التعليم نفسه. فبدل أن يكون التعليم وسيلة للتحرر من الجهل، أصبح في بعض المناطق وسيلة لإعادة إنتاجه، تُدار المدارس بمناهج متناقضة تخدم الصراع لا الوعي، ويُختزل دور المعلم في التلقين لا في التنوير».
البورفسور موسى علايه
ويحذر علايه من حالة ما يسميه بـ«الاستعزام المنظّم للتجهيل»؛ أي تحويل المؤسسات التعليمية إلى أدوات تُنتج ذاكرة منقوصة وعقلًا موجَّهًا وجيلًا منفصلًا عن واقعه، معتبرًا أن هذا أخطر من الحرب العسكرية نفسها، لأن الحرب تدمّر الجسد، بينما يدمّر التعليم المنحرف الوعي.

واقع معقّد

من جهته، يرى الدكتور يحيى الربوي - المدير الأسبق للمركز الوطني للمعلومات - أن للتعليم دورًا محوريًا في تحقيق السلام المنشود، خاصة في ظل الواقع اليمني المعقّد الذي أنتجته عقود من الحروب المتتالية.
ويشير إلى أن التجارب الدولية أثبتت أن السلام الحقيقي لا يُفرض بالقوة العسكرية، بل يُبنى بالمعرفة والوعي. لذلك، ينبغي إعادة توجيه التعليم في اليمن ليكون جزءًا من مشروع وطني لإعادة بناء الإنسان وترميم النسيج الاجتماعي الذي مزقته الصراعات.
أما المفكر قاسم المحبشي - أستاذ فلسفة التاريخ والحضارة بجامعة عدن - فيقدم رؤية مختلفة تركّز على ضرورة توحيد مناهج التربية والتعليم، معتبرًا أن تفاوت المناهج وتضارب مصادرها وأهدافها يؤدي إلى نتائج كارثية، ويحول دون قدرة المجتمع على التفاهم والتعايش.
البروفسور قاسم المحبشي
ويشبه المحبشي في حديثه لـ"النداء" حالة التشظي التعليمي في اليمن بقنينة الزجاج حينما تنكسر، مؤكدًا أن المجتمعات العربية والإسلامية تعاني من المشكلة ذاتها، ما أدى إلى تطرف فكري وجدالات تكفيرية تعكس جمودًا فكريًا وتاريخيًا.
ويؤكد - بصفته عضوًا في الهيئة الاستشارية العليا للمنتدى العربي الإفريقي للبحث والتنمية - أنه لا بديل عن توحيد المناهج التعليمية والفصل بين سلطة الدولة وسلطة الدين، لأن مؤسسات التربية والتكوين هي التي تُبنى عليها رؤية المجتمع ومستقبله.

دولة بالعلم لا بالولاء

يعتقد الدكتور الربوي أن التعليم قادر على الإسهام في إحلال السلام من خلال غرس قيم التسامح وقبول الآخر والتعايش، وتحرير العقول من التعصّب والانغلاق.
ويشدد على أن إعادة بناء المنظومة التعليمية تمثل أولوية لأي مشروع استقرار، من خلال إصلاح المدارس والجامعات، وتأهيل المعلمين، وتحديث المناهج بما ينسجم مع مفاهيم حقوق الإنسان والسلام.
د يحيى الربوعي
كما يوصي بوضع استراتيجية وطنية لإصلاح التعليم تركز على المواطنة المتساوية، وإدراج مهارات التفكير النقدي وفض النزاعات ضمن المناهج، إضافة إلى ضمان المساواة في فرص التعليم بين الجنسين والمناطق.
ويؤكد أهمية إشراك الجامعات ومراكز البحوث والمنظمات الدولية والمجتمع المدني في دعم التعليم كجزء من عملية بناء السلام.
ويختم البروفيسور موسى علايه حديثه بالتأكيد على أن إعادة بناء التعليم ليست عملية تنموية فقط، بل فعل مقاومة ضد التجهيل والظلام، وشرط أساسي لقيام دولة مدنية تُدار بالعلم لا بالولاء، وبالعقل لا بالعنف.
طالبات داخل فصل دراسي ــ Unicef
ويقول: «ما يزال في التعليم اليمني أمل كبير إذا أُعيدت صياغته على أسس العدالة والمواطنة، وإذا تم تحييده عن الصراعات السياسية والطائفية. فكل مدرسة تُفتح في الريف اليمني هي جبهة ضد الحرب، وكل معلم يُدرّس بإخلاص هو مشروع سلام متنقل. فالسلام في اليمن لن تصنعه الاتفاقيات السياسية وحدها، بل سيصنعه جيلٌ جديد من المتعلمين يؤمن بأن الوطن أكبر من الجماعة، وأن القلم أقوى من الرصاصة، وأن التنمية تبدأ من فكرة صادقة تخرج من عقل مستنير، لا من برميل بارود».

الكلمات الدلالية