صنعاء 19C امطار خفيفة

الصابئة المندائيون.. الحقيقة تغتسل في النهر

هناك جماعات لا تحتاج أن ترفع صوتها كي تفرض حضورها، يكفي أنها بقيت. الصابئة المندائيون أحد تلك البذور القديمة التي رفضت أن تذبل رغم أن يد التاريخ مرت فوقها ثلاث عشرة مرة، كل مرة كأنها الأخيرة. ومع ذلك خرجوا من الماء كما خرج يوحنا نفسه، مبتلين بالمعنى لا بالخوف.

دينٌ يضع الماء في قلب العقيدة لا كرمز للنقاء بل كوثيقة ميلاد. ليسوا أبناء المعابد بل أبناء النهر. جماعة تقرأ العالم من مجرى دجلة والفرات، كما لو أن الحقيقة تُسقى لا تُشرح، وتُغتسل لا تُفسّر. ولهذا كانوا دائماً غرباء، غرباء بالهدوء لا بالعداوة، وبالبساطة التي تستفز عقول المتعقّدين.
طقوس تعميد خاصة بالصابئة المندائيين
اختلف المؤرخون في تصنيفهم، هل هم أقدم ديانات الشرق أم بقايا غنوصية هاربة من لهب الإمبراطوريات، أم امتداد للمعمودية المسيحية قبل أن تتنصّر؟ أم أنهم قطعة مفقودة من مكتبة بابل خرجت تبحث عن قارئ؟. الصابئة لا يجيبون لأن الإجابة عندهم ليست عود ثقاب يشتعل بالحرف، بل نهر ينحت شكله بنفسه.
اسم الصابئة ظل يتنقّل بين اللغات كمسافر ضائع يبحث عنوانه قبل أن يستقر. منهم من ردّه إلى الجذر السامي "صبأ" بمعنى مال وانحرف وخرج من دين إلى آخر، وكأن العالم كان يبحث عن طريقة بسيطة لوضع كل المختلفين في خانة واحدة. ومنهم من قال إنه من السريانية "صَبّاي" أي أهل التعميد، وهذا أقرب لجوهرهم لأن الماء عندهم ليس فعلاً عابراً بل هوية كاملة.
واليوم يسمَّون "المندائيين" أي أهل المعرفة الروحية، لأنهم رأوا أنفسهم جماعة تُعمّد الأجساد بالماء، وتعمّد العقول بالمعرفة في الوقت نفسه. اسمٌ لا يشرحهم بقدر ما يضيء طريقتهم في النجاة.
كل ما نعرفه أنهم أول من جعل الماء معبداً والضوء كتاباً والملائكة رسلاً بلا سيوف. دينهم لا يتكلم لغة الطغاة، فلا جهاد ولا فتوحات ولا لعنات تتنقل بمهارة السياسيين. فقط طهارة ومعرفة ورحلة طويلة نحو "العالم النوراني" الذي يبدو أقرب إلى قصيدة منه إلى عقيدة.
يؤمنون بـ"الحي العظيم" لا كربّ يجلس على عرش بل كنور يتخلل البشر كما يتخلل الماء مسامات الحجر. وكتبهم تشبههم لا تُقرأ بسهولة ولا تُشرح بخفة. "كنزا ربا" كتاب يبدو كأنه كُتب في الضفة بين عالمين، نصوص غنوصية ثقيلة مثل ألواح سومرية، وأدعية طويلة كأنها تحاول أن تشرح للسماء نفسها. ولأنهم لم يفتحوا باب دعوتهم لأحد، بقي الكتاب أشبه بمفتاح لا ينفع إلا لمن يعرف أصلاً أين الباب.
يعتبرون "يحيى" نبيهم الأكبر، يسمونه يحيى يوحنا. نبي يغمس الناس في النهر ليعيد خلقهم، لا ليحشو عقولهم بشعارات. نبي يشبههم، قليل الكلام كثير الماء.
المندائي إذا أراد أن يتقرّب من ربه لا يرفع السيف، بل يرفع ملابسه كي ينزل إلى الماء. وإذا أراد التطهير لا يبحث عن محراب بل عن نهر يجري. ولهذا كانوا أبناء الرافدين بحق، ليس لأنهم سكنوه بل لأنهم شَبَّهوا الروح بجريانه.
الصابئة المندائيين وهم يؤدون طقوسًا دينية
المفارقة أن هذه الطائفة المسالمة التي لا تعرف القتال ولا الخديعة، حوصرت أكثر مما حوصرت جيوش. كل إمبراطورية مرّت حاولت إعادة تشكيلهم، مرة بالتهجير ومرة بالإذابة ومرة بالتصنيف القسري. ومع ذلك ظلوا هناك قرب النهر، كأن الماء احتفظ بهم كذكرى شخصية.
في زمن الدولة الإسلامية سُمح لهم بالعيش كـ "أهل كتاب"، رغم أن أحداً لم يتأكد أي كتاب تحديداً. وفي زمن العباسيين تحدث عنهم الجاحظ كغرباء لا يشبهون أحداً. وفي الدولة العثمانية دفعوا الجزية كما يدفعها من يريد النجاة لا من يؤمن بالسلطة. أما في زمن الفوضى الحديثة فقد صاروا أقلية داخل أقلية كأن العالم كله قرر أن المكان لا يتسع للماء والبارود معاً.
الصابئة لا يتزوجون من خارجهم، لا يدعون أحداً للدخول إلى دينهم، لا يقبلون التحول ولا الهروب. الدين عندهم ليس فكرة بل هوية تولد معك وتدفن معك. تشبه لون العين لا تُكتسب، وتشبه النهر لا يُستعار. وهذا وحده كافٍ ليجعلهم من الناجين القلائل من زمن لم يعد يحترم الأسرار.
طقوسهم تبدو كأنها هاربة من سِفر تكوين ناقص. تعميد متكرر، صلوات باتجاه الشمال حيث عالم النور، ذبائح بيضاء بلا دمٍ يصعد إلى السماء، وأعياد تبدأ بالماء وتنتهي به. وما بين ذلك الكثير من الدرجات الروحية التي لا يشرحونها للغريب، لأن الحقيقة عندهم لا تُمنح لمن لم يتطهر في النهر.
ورغم كل هذا السكون كانوا دوماً هدفاً لسوء الفهم. بعض الفقهاء اتهمهم بالشرك لأنهم يقدسون الماء، وبعض المؤرخين احتاروهم لأن ديناً بلا جهاد يشكّك في ذكورية التاريخ. وفي العقدين الأخيرين صاروا هدفاً لميليشيات تظن أن العالم لا يتسع إلا لعقيدة واحدة، فهرب الآلاف منهم من العراق إلى المنافي كأن النهر فقد نصف ذاكرته.
المندائي لا يتذمر. إنه يشبه ضوءاً يعرف متى يخفض شدته. يهاجر بهدوء، يحمل كتبه وطقوسه وينتظر أن تهدأ العاصفة. شعب بُنِي على الصمت لا على الشعارات وعلى المعرفة لا على الهيمنة وعلى الماء لا على الدم.
الصابئة اليوم يعيشون في فجوة التاريخ. نصفهم في العراق ونصفهم الآخر في أستراليا وأوروبا، وكأن النهر انقسم بين ضفتين. لكنهم رغم التشتت ما زالوا يحافظون على المعمودية نفسها وعلى الكتب نفسها وعلى الإيمان نفسه، لأن الضوء إذا تشكل في الماء لا يذوب بسهولة.
قد يختلف العالم على تعريفهم وقد تفشل الكتب في تصنيفهم، لكن الحقيقة البسيطة التي يعرفها كل من اقترب منهم، هي أنهم أحد آخر الأديان القديمة التي تجولت على هذه الأرض، دون أن تتحول إلى سيف.. دين عاش بلا حرب وبقي بلا حرب، وهذا وحده كافٍ ليجعله معجزة صغيرة، في عالم يحب القتال أكثر مما يحب الطهارة.

الكلمات الدلالية