صنعاء 19C امطار خفيفة

حين يُعتقل العقل... تُسقط الأمة

البروفيسور حمود بن صالح العودي ليس مجرد اسم في سجل الأكاديميين اليمنيين، بل هو عنوان لجيلٍ من العقول التي أنارت دروب الوطن بالفكر والعلم والموقف. مفكرٌ، باحثٌ، وأستاذٌ جامعي كرّس عمره الطويل في خدمة اليمن، وبنى لنفسه مدرسة فكرية ووطنية ظلت تُذكّرنا أن الأوطان لا تُبنى بالشعارات، بل بالعقول الحرة وبالعمل، وبالصدق في حب الوطن والتفاني لأجله.

قبل أيام، وصلتني رسالة قصيرة تقول: "الدكتور حمود يريد اللقاء والتشاور حول أمرٍ استجد".
كان اللقاء بحضور إخوةٍ يجمعنا الهمّ الوطني ذاته، وإيمانٌ راسخ بأن لا مخرج من مأزق البلاد إلا عبر الحوار والمصالحة الوطنية وبناء الدولة المدنية العادلة.
كانت روح الدكتور العودي كما عهدناها، مفعمة بالأمل رغم تعب السنين، تفيض إصرارًا على أن الطريق إلى السلام يمر عبر الثقة والتفاهم، لا عبر الإقصاء والعداوة.
لكن ذلك الجهد الوطني تجمّد، كما تجمّد كل حلم صادق في هذا البلد المنهك، بعد أن أغلقت الأبواب في وجه الحوار، وبقي الواقع رهينة التهديد والوعيد من هذا الطرف أو ذاك.
ثم لاح بصيص أمل، حين بادر أحد أعضاء المكتب السياسي لأنصار الله بطلب رؤية من الدكتور حمود لإنجاح الحوار الذي تتحدث عنه وسائل الإعلام او هكذا فهمنا.
استبشر الدكتور خيرًا، وسارع بإعداد رؤية استراتيجية للتحالف المدني للسلم والمصالحة الوطنية، ليتم تقديمها رسميًا إلى مكتب أنصار الله، ثم تُرفع -كما نقل للدكتور حمود- إلى قائد الجماعة السيد عبدالملك الحوثي.
ولم يكن ذلك غريبًا عليه، فهو صاحب إيمانٍ راسخ بأن الوطن لا ينهض إلا بالعقل، وأن الحوار هو المخرج الوحيد من مأساة الاحتراب والانقسام.
بل إن هذا التواصل لم يكن الأول، فقد سبق أن دعا الأستاذ سلطان السامعي عضو المجلس السياسي الأعلى في صنعاء، الدكتور العودي للقاء وطلب مماثل، مؤكدًا أن لا خلاص إلا بالحوار، وداعيًا لإعداد رؤية وطنية للحوار تُرفع إلى القيادة العليا. كانت الدعوتان تلتقيان في جوهرٍ واحد: إنقاذ اليمن بالعقل لا بالسلاح، وبالكلمة لا بالرصاصة.
لكن...
أيّ مشهدٍ موجعٍ هذا الذي نراه اليوم؟
أين الدكتور حمود العودي الآن؟
أين هذا الرمز الوطني الكبير الذي تجاوز الثمانين، وهو يواجه المرض والشيخوخة بروح العالم لا بسلطان القوة؟
لقد اقتيد بالأمس -مع رفيق دربه المناضل عبدالرحمن العلفي والمواطن الأمين أنور شعب- إلى جهةٍ مجهولة، بعد اقتحام ملتقاه الثقافي ومصادرة محتوياته.
مشهد يبعث على الألم، ويعيد إلى الذاكرة أحلك عصور القمع الفكري، حين كانت العقول تُعتقل لأنّها تفكر، وتُكمّم الأفواه لأنها تنطق بالحق.
أيّ توحشٍ هذا؟
وأيّ وطنٍ نريد أن نبنيه إذا كنا نكسر أقلام مفكرينا ونخنق صوت العقل؟
قطعا لن يحترمنا أحد..
إن الوطن الذي يعتقل مفكريه إنما يعتقل مستقبله.
وإن أمةً تكمم فكر علمائها لا يمكن أن تنهض مهما رفعت من الشعارات.
حمود العودي ليس مجرد إنسانٍ مظلوم، بل رمزٌ لكرامة الفكر اليمني، وصوتٌ يذكّرنا أن الوطنية ليست انتماءً لحزبٍ أو جماعة، بل التزامًا بالحق، وإيمانًا بأن اليمن لكل أبنائه.
حسبنا الله ونعم الوكيل.
اللهم احفظه وأعده إلى أهله وطلابه ومحبيه سالمًا، فالعلماء والمفكرون لا يُعتقلون... بل يُحترمون، لأنهم ضمير الأمة وذاكرتها الحية.
* دبلوماسي - سفير ونائب سابق

الكلمات الدلالية