الإيزيديون.. الرمز لا يشرح نفسه بسهولة
هناك جماعات لا تشبه إلا نفسها، تعيش بين السيوف كأنها تتنفس من ثقب الباب. الإيزيديون أحد تلك الأسرار التي لم يتفق المؤرخون بعد على تصنيفها: أترَاها ديانة قديمة استعادت أنفاسها، أم بقايا زرادشتية شردتها الفتوحات ثم أعادتها الذاكرة، أم مزيج بارع من الميثولوجيا والروحانية والأسطورة؟ إنهم كل هذا وأكثر.
الديانة التي يصرّ البعض على التعامل معها كغموض فلكلوري، هي أرشيف طويل لمرحلة ما قبل الأديان الإبراهيمية. صُورتها الحديثة خرجت في القرن الثاني عشر، من معطف عدي بن مسافر، الرجل الذي جاء من بعلبك إلى لالش ليحدث أحجار الوادي عن ضرورة تحديث نظام التشغيل الروحي.

لم يخترع الديانة، بل جمع بقايا الزرادشتية والميثرائية والروحانيات الكردية، وخلطها كما يخلط العطار أعشاباً لا يعرف أحد إن كانت تشفي أم تُسكر. النتيجة كانت ديناً يقف على قدميه منذ ثمانية قرون. هذا وحده إنجاز يكفي لاعتبار عدي بن مسافر مدير مشروع ناجح.
تفاصيل الديانة وُلدت في لالش شمال العراق، حيث المعبد الأبيض المحاط بالشمس، وشقت طريقها عبر قرى سنجار والشيخان وطور عبدين وجنوب تركيا وشمال سوريا. مناطق لم تتفق يوماً على شيء، لكنها اتفقت على أن الإيزيديين غرباء، والغرابة في منطقتنا تهمة جاهزة قبل أن تكون هوية.
الإيزيدي لا يشرح نفسه بسهولة، يشبه جملة كُتبت بخط جميل لكن بمداد غير مرئي، تُقرأ حين تقترب من الشمس فقط. ولهذا ظلّوا لقرون مادة خصبة لمخيلة المؤرخين، ومادة أكثر خصوبة لخيالات خصومهم. كلما حاول أحد أن يعرفهم عاد محملاً بسؤال أكبر من الإجابة.

ديانة الإيزيديين ليست شفافة لمن ينظر بعين الحرف. دين يرى أن الكون ليس صراعاً بين الخير والشر، بل رقصة بين نورٍ يحاول أن يعرف نفسه وظلامٍ يحاول أن يفهم النور. لا جنة بتهديد، ولا نار تلوّح بالعقاب، بل عالم كُتب كقصيدة رمزية لا يقرأها إلا من يعرف مفرداتها.
يُعدّ "طاووس ملك" مركز الحكاية، ذاك الكائن الذي ظنه الآخرون "شيطاناً"، بينما هو في العقيدة الإيزيدية الملاك الأكبر، رمز الطاعة الأولى لا السقوط الأول. ليس إبليس القرآن ولا لوسيفر المسيحية، بل نور امتحن نفسه فعاد إلى الله أكثر قرباً لا أكثر تمرداً. لكن التاريخ العربي لا يجيد قراءة الرموز، فحوّل الميتافيزيقا الإيزيدية إلى شتيمة جاهزة. هكذا تحوّل "طاووس ملك" إلى سوء تفاهم عمره ألف عام.
ومع ذلك، استمر الإيزيديون في الجبال والوديان في سنجار ولالش، في البيوت ذات الأبواب الخشبية التي تخفي طقوساً لا تُروى للأغراب. كانوا يختارون الصمت كإستراتيجية نجاة لا كخوف، يمارسون دينهم بالتقية، ليس لأن دينهم سرّ، بل لأن العالم لا يحتمل تلك الدرجة من الوضوح حين يُكتب بلغة الرمز.
كتبهم المقدسة ليست من النوع الموزع في المكتبات. هناك "مصحف رش" وكتاب "الجلوة" ونصوص الشعر الديني المعروفة بـ"القوال"، وهي تراتيل تنتقل شفهياً لأن الاضطهاد جعل الكتابة خطراً. دين بأكمله نجا عبر الذاكرة، كأنهم أدركوا مبكراً أن الورق يموت أسرع من البشر.
ولأن الدين عندهم ليس عقيدة تُلقَّن، بل هوية تُحيا، يولد الإيزيدي إيزيدياً ولا يستطيع أن يتحول إلى ديانة أخرى، أو يدخل أحد إلى دينه. هم ليسوا مذهباً مفتوحاً للتسجيل، بل ذاكرة جماعية، تجربة روحانية لا تُستنسخ. يقرأون الكون كما يقرأ الشاعر قصيدته، بالتأويل لا بالحرف. يؤمنون بالقدر لكنهم لا يعبدون الخوف، ويقدسون الملائكة لكنهم لا يعتقدون أن العالم ساحة حرب بين كائنات خارقة.
الإنسان عندهم ليس عبداً، بل روحاً تتعلم، تتطهر، تعود. ولذلك بدت ديانتهم في عيون الفقهاء بدعة، وفي عيون الفلاسفة حكمة، وفي عيون العوام لغزاً بلا مفتاح.
طقوسهم أيضاً ابنة الضوء. يشعلون النار في رأس السنة، يطوفون حول القباب، يغتسلون في نبع، يرفضون اللون الأزرق لأسباب ميثولوجية، ويؤمنون بإعادة تجسد الأرواح. وفي عيدهم يأتون من الشتات إلى لالش كأنهم يعودون إلى نقطة الأصل، ليذكّروا أنفسهم أن ما تبقى منهم ما زال أكثر من اللازم ليعيش.
ورغم هذا التاريخ العميق، فُسّر وجودهم دائماً كخطيئة. العثمانيون أصدروا فرمانات الإبادة، والفقهاء دعوا لقتلهم، ثم جاء "داعش" ليعيد كتابة الفرمان بأسلوب أكثر وحشية: قتل وخطف وسبي، وبيع نساء في أسواق سوداء تشبه قلوب القتلة. اختُطفت بنات بعمر الورد، وبِيع أطفال كأنهم أمتعة. وما تزال جروح ذلك اليوم تنزف على صفحات الذاكرة، بينما العالم يغيّر القنوات كما لو لم يكن هناك شيء قد حدث.
لم تكن تلك جريمة ضد دين ما، بل ضد الإنسانية نفسها. ومع ذلك عادوا، شعب يشبه جمرة تُطفئها العواصف ثم تتقد من جديد. عادوا إلى سنجار كأنهم يقولون للتاريخ: حاولتَ دفننا ولا تدري بأننا بذور.
الإيزيديون يعيشون اليوم على حافة التاريخ، نصفهم في الشتات ونصفهم في وطن يعرف أسماءهم لكنه لم يتعلم بعد كيف يحميهم. ومع ذلك لم يفقدوا خيط النور الذي بدأ معهم قبل آلاف السنين. نور لا ينهزم، لأنه ليس فكرة، بل هوية.
بعض الشعوب لا تنقرض لأنها محمية بقوة القانون، بل لأنها محمية بقوة المعنى. والإيزيديون هم الدرس الذي ينساه العالم دائماً، ثم يعود ليكتشفه مع كل مجزرة. صمدوا أمام 74 محاولة لإبادتهم، وهذا رقم لا تحمله ديانة ضعيفة، بل تحمله هوية مصنوعة من عناد وذاكرة وشيء يشبه الضوء.