صنعاء 19C امطار خفيفة

من يصنع القيمة؟ الإنسان أم المنصب؟

في زمنٍ انقلبت فيه الموازين، وصار الكرسي أثمن من الكرامة، واللقب أهم من الفعل، والصفقة بديلاً عن الفكرة، يطلّ السؤال الموجع من بين ركام الواقع: من يصنع القيمة؟ الإنسان أم المنصب؟

هل الوطن هو من يمنح أبناءه قيمتهم؟ أم الإنسان هو من يخلق مجده بفعله، حتى وإن وقف عاريًا من الألقاب؟

البعد النفسي: عقدة القيمة المزيفة

ما تعيشه مجتمعاتنا ليس نقصًا في الموارد بقدر ما هو اضطراب في المعنى.
فالجاهل يظن نفسه عظيمًا لأنه يحمل ختم الدولة، والعالم يشعر بالذنب لأنه يعيش بشرفٍ دون واسطة.
هي عقدة النقص الوطنية، حين يتحول الكذب إلى دهاء، والنفاق إلى دبلوماسية، والسكوت عن الفساد إلى حكمة.
وحين يُهان صاحب الضمير لأنه "مزعج"، ويُكرَّم المتلون لأنه "مرن"، يصبح الخلل أخلاقيًا لا إداريًا.

البعد الاجتماعي: حين تسقط القدوة

حين يُقاس الإنسان بماله لا بعلمه، وبنسبه لا بفكره، وبسلاحه لا بأدبه، تنهار منظومة القدوة.
يتحول المجتمع إلى ساحة تصفيقٍ فارغة، تتناوب فيها الأصوات على التطبيل، ويُدفن الصمت الشريف في الزوايا.
يهان المعلم لأنه لم يتملّق، ويُقصى الطبيب لأنه قال الحقيقة، ويُغيب الضابط الشريف لأن ضميره لم يتلوث.
فتغدو المجتمعات أشبه بمرآة مكسورة؛ تعكس زيفًا أكثر مما تعكس وجهها الحقيقي.

البعد الثقافي: حين يُصبح الجاه علمًا

في ثقافةٍ فقدت المعنى، غدت الجامعة مصنعًا للشهادات لا للعقول، والإعلام منبرًا للضجيج لا للفكر.
لم تعد الثقافة وعيًا، بل “ديكورًا” سياسيًا يتلو ما يُملى عليه.
تآكلت الهوية الثقافية لصالح ثقافة "اللاشيء":
لا كتب تُقرأ، لا أفكار تُنتج، ولا مشروع وطني سوى الولاء للأشخاص بدل الأوطان.
صارت الثقافة في بعض البيئات تسويقًا للسطحية، حيث كل من يصرخ أعلى يبدو أعلم، وكل من يتقن المظهر يبدو أعمق.

البعد الاقتصادي: حين تُدار الدولة بمنطق الغنيمة

الاقتصاد ابن مباشر للأخلاق.
وحين ينهار الميزان القيمي، يصبح الوطن شركة مفلسة يديرها الهواة.
تُستبدل الكفاءة بالولاء، والخبرة بالمجاملة، وتتحول الوظائف إلى صدقاتٍ والمناقصات إلى غنائم.
النتيجة: ثروة مهدورة، وكفاءة مهاجرة، وقرار يتأرجح بين من لا يعرف ومن لا يخجل.
إنه الفقر الأخلاقي الذي يلد الفقر الاقتصادي، كما تلد الخيانةُ الهزيمة.

البعد السياسي: الدولة بوصفها مِلْكًا خاصًا

تحولت السياسة في كثير من أوطاننا إلى وراثةٍ اجتماعية، تُدار بمنطق "الشلّة"، لا بعقل الدولة.
تُوزع المناصب على رواد الولائم لا مراكز الأبحاث، وعلى المتملقين لا المفكرين.
وحين تصبح المناصب تركةً عائلية، تُلغى فكرة الوطن ويُستبدل بها مفهوم "الملكية الرمزية للكرسي".
فلا عجب أن يغيب المشروع الوطني، لأن الدولة التي تُدار بالقرابة تُصاب بالعمى، ولو امتلكت ألف جهاز مراقبة.

البعد العسكري: الجندية بين الشرف والديكور

حتى الجندية، آخر معاقل الشرف، لم تسلم من التلوث.
فحين يُرقّى الضابط بالولاء لا بالكفاءة، يتحول السلاح إلى زينة في يد الفاسد.
الجيش الذي لا يحمي العدالة لا يحمي الوطن، وإن رفع آلاف الأعلام.
الجندية ليست بزّة، بل عقيدة كرامة، وحين تُفقد هذه العقيدة، يُصاب الوطن بكساحٍ دائم في عموده الفقري.

آلية الخروج: من دولة الأشخاص إلى دولة القيم

لا خلاص إلا بثورة قيمية تبدأ من الإنسان لا من الكرسي.
بإصلاح التعليم ليصبح مصنعًا للمواطنة، لا لتوزيع الشهادات.
بإعادة الاعتبار للكفاءة على حساب القرابة.
بإعلامٍ يرفع القيم لا الأشخاص، ومؤسساتٍ لا تحمي أحدًا فوق القانون.
بجيشٍ يُرقّي الشرف لا المصلحة، وإدارةٍ تُكافئ النجاح لا التملق.
وبشجاعة الاعتراف بالفشل، لأن الانسحاب بشرف أعظم من البقاء بالباطل.

خاتمة: الكرسي لا يصنع الإنسان

القيمة الحقيقية لا تُقاس بختمٍ رسمي ولا ببطاقةٍ تعريف، بل بما تقدمه حين لا يراك أحد.
الوطن الذي يكرم الكفاءة يحيا، والذي يعبد الأشخاص يهلك.
فالقيمة لا تُمنح، بل تُنتَزع بالصدق والإخلاص.
والفارق بين المنصب والإنسان، أن الأول يُرفع بقرار، أما الثاني فيرتفع بضميره.

الكلمات الدلالية