صنعاء 19C امطار خفيفة

الإنسانية تتحدث بلهجة يسرى

في بعض الأحيان، تصنع الصدفة قصصاً لا تُنسى، وتكشف عن معادن بشرية نادرة وسط زحام الحياة. هذا ما حدث معي يوم أمس الأول، حين تحوّل اتصال هاتفي عابر إلى لحظة إنسانية صادقة، تركت في نفسي أثراً عميقاً.

بدأت القصة عندما رفعت الهاتف متحدثاً، وقلت:
ـ ألو، يسرى؟
فجاءني صوت هادئ يقول:
ـ نعم، لكن من أنت؟
قبل أن أجيب على سؤالها، قلت متلعثماً بفرنسيتي العادية جداً، وربما المكسّرة:
ـ أنتِ يسرى التي كانت تعمل ـ في اعتقادي ـ في المحل القريب من شارع الشانزليزيه في باريس؟
فأجابت بسرعة وثقة:
ـ لا، أنا لا أعمل هناك.
شعرت بالارتباك وقلت:
ـ آه، آسف، اعتقدت أن هذا رقمها.
فأعادت نفس الإجابة بلطف:
ـ لا، ربما أن هناك يسرى أخرى.
اعتذرت عن الإزعاج، وهممت بإنهاء المكالمة، لكن شيئاً في صوتها دفعني لسؤالٍ أخير:
ـ تتكلمين العربية؟
فقالت بابتسامة مسموعة:
ـ نعم، لكن ليس كثيراً.
وهنا بدأ الحديث يتحول إلى شيء مختلف. تركت الفرنسية جانباً وقلت بالعربية:
ـ اسمي أمين، ويسرى التي أبحث عنها كانت تساعدني أحياناً في الترجمة. لدي موعد عمل مهم، وربما سأوقّع على بعض الأوراق، لكن لغتي ليست جيدة بما يكفي، لذلك كنت أحتاج من يترجم لي.
سألتني بهدوء:
ـ ومتى موعدك؟
قلت:
ـ الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، لكنني ما زلت أنتظر تأكيد الموعد.
فقالت دون تردد:
ـ لا تقلق، سأترجم لك أنا.
ومن خلال حديثنا، اكتشفت أنني كنت قد التقيت يسرى من قبل، قبل نحو خمس سنوات أو أكثر، في أحد المكاتب الحكومية في باريس، حيث ساعدتني آنذاك في الترجمة. لكن بعد ذلك انقطع التواصل بيننا طوال تلك الفترة، حتى جمعتنا الصدفة من جديد عبر هذه المكالمة.
فرحت وشكرتها بحرارة على لطفها. لم أكن أعلم حينها أنها كان لديها موعد خاص في نفس الوقت، وأنها ألغته لاحقاً لتبقى في بيتها بانتظار اتصالي لأجل موعدي!
كم شعرت بالحرج حين عرفت لاحقاً أنها ضحّت بموعدها لأجلي. امرأة تلغي أعمالها من أجل مساعدة الآخرين! كان بإمكانها أن تنهي المكالمة من اللحظة الأولى، لكنها لم تفعل.
حين يكون الإنسان أصيلاً، يجتمع فيه النبل والمروءة والإنسانية، وهكذا كانت يسرى النبيلة.
عرفت منها أنها تسكن في مدينة قريبة من باريس حيث مكان عملها، وأن أمورها هناك مستقرة، وتعمل حالياً كباحثة في علوم الأعصاب، ولديها دكتوراه من جامعة (UPMC) في هذا المجال، وتكرّس جهودها لتطوير علاجات للأمراض التنكسية العصبية.
تقول: «أهدف من خلال ما أقوم به من أبحاث في الفترة الحالية إلى تقديم حلول علاجية ملموسة، وإحداث تغيير مستدام في العالم».
وتُعد جامعة (UPMC) واحدة من أهم الجامعات الفرنسية في مجال الأبحاث.
يا لها من إنسانة راقية ومهذبة، تنبض إنسانيتها صدقاً وصفاء. كنت قد أخبرتها عن عملي السابق وصعوبة العودة إليه، بسبب اللغة وغيرها من الأسباب، فأرسلت لي أثناء حديثنا رابطاً لمؤسسة قد تساعدني، وقالت إنها ستتواصل معهم بالنيابة عني.
كل هذا بدافع الشهامة والكرم، لا المصلحة ولا المجاملة.
اتفقنا أن أنتظر تأكيد الموعد ثم أعود إليها. وبالفعل، اتصل بي صاحب العمل في الوقت المحدد، وقال إن المقابلة ستتم مباشرة دون الحاجة إلى مترجم.
حدثت المقابلة بسرعة، بطريقة جعلتني أشعر أن الحظ لم يكن إلى جانبي. كانت الأسئلة سريعة وغير واضحة، ولم أستطع أن أعبّر كما يجب.
رجعت إلى يسرى وقلت لها ما حدث. وعندها فقط عرفت أنها فعلاً ألغت موعدها من أجلي.
تأسفت لها كثيراً، لكنها لم تقبل اعتذاري وقالت بثقة هادئة:
ـ يا أمين، ليس هناك ما يستدعي الأسف، لقد فعلت ما يمليه عليّ ضميري.
ثم أضافت:
ـ أنا أحب اليمن، واليمن بلد مكلوم.
تأثرت كثيراً بكلامها، وبدأت أحدثها عن اليمن... عن ذلك البلد الذي كان يُعرف بـ«اليمن السعيد»، لكنه لم يعرف السعادة يوماً.
قلت لها بحرقة:
ـ اليمن يمر بأسوأ حالاته، اليمن يا دكتورة يسرى، يئن وينزف.
اليمني يبحث عن الطعام، عن الدواء، عن حياةٍ كريمة، ولو حتى شبه كريمة، عن الأمان والاستقرار الذي فُقد منذ سنوات الحرب.
استمعت إليّ بإصغاء حقيقي دون تكلّف، وكأنها تعرف اليمن وألمه وأوجاعه.
قلت لها أخيراً:
ـ إذا وجدتِ وقتاً لتقرئي عن اليمن، فافعلي. ستفهمين لماذا يتمسك الناس هناك بالحياة رغم كل شيء.
وانتهى الحديث على وعدٍ باتصال لاحق، حين تحصل على ردٍّ من الجهة التي تواصلت معها لأجلي.
كانت تلك مكالمة واحدة، لكنها حفرت في قلبي أثراً لا يُمحى. علمتني أن الصدف الجميلة لا تأتي عبثاً، وأن هناك أناساً يثبتون لنا أن الخير ما زال حياً، حتى لو جاءنا ذات يوم عبر رقمٍ خاطئ.
وبينما كنت أتأمل ما حدث، أدركت أنه لا يزال هناك أناس يُعيدون إلينا الإيمان بالخير، في زمن باتت فيه المصلحة تقود كثيراً من العلاقات. تأتي مثل هذه المواقف لتذكرنا أن النبل والوفاء ما زالا يعيشان بيننا، وأن الأصالة لا تحتاج إلى معرفة مسبقة، ولا إلى مصلحة مشتركة.
هي فقط فطرة طيبة، تنبض من قلبٍ صادق، كقلب الدكتورة يسرى النابض بالخير والصدق والنبل والجود والطيبة، التي أكدت أن الإنسانية ما زالت أقوى من المسافات، وأن رقماً خاطئاً قد يكون في بعض الأحيان باباً لصداقة راقية أو درساً في الوفاء.

الكلمات الدلالية