صنعاء 19C امطار خفيفة

ممداني وترامب في أمريكا المتغيرة

كلاهما نقيض للآخر؛ زهران ممداني يساري اشتراكي، أي علماني، وهو عضو في الحزب الديمقراطي الأمريكي ومنحاز لمصالح الطبقتين المتوسطة والفقيرة، ولفلسطين.
أما ترامب ففعل العكس، ويمثل مصالح الأثرياء الذين أعلن بعضهم أنهم سيتركون نيويورك ويحرمونها من أموالهم واستثماراتهم عقاباً لمواطنيها على اختيارهم الحر لممداني.
ممداني بخطابه وبفوزه نزع قشرة كانت تغطي قبحاً وفساداً في ديمقراطية الجمهوريين الأمريكيين.
زهران ممداني ــ رويترز
ترامب ناصب ممداني العداء قبل وبعد فوزه، واستخدم سلاحاً ظن الأمريكيون أنه انتهى في مستهل خمسينيات القرن الماضي لإرهاب الخصوم بتهمة الشيوعية، قاده السناتور مكارثي، في حقبة لا وجود للاتحاد السوفيتي فيها ولا للصين الحمراء.

العرب وممداني:

يعوض العرب عجزهم في بناء أنظمة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان بالفرح لانتصارات غيرهم، وخاصة إذا كانوا من لونهم ومن أتباع ديانتهم، ولو كان الفائز غير ممداني وبنفس برنامجه الانتخابي لما اهتموا به كثيراً، إلا من باب رغبتهم في إضعاف إدارة ترامب العنصرية وحزبه الجمهوري اللذين يخشيان الأسوأ في انتخابات الكونجرس عام 2026، التي لو كسبها الديمقراطيون لفكروا بعزل ترامب ودفن الترامبية.
لفوز ممداني بعدٌ هام آخر، لحدوثه في مدينة نيويورك قلعة النفوذ الصهيو - إسرائيلي المالي والإعلامي والسياسي، وكان الظن أن هذه القلعة ستظل عصية على السقوط والتغيير.
نيويورك تغيرت بفضل جيل شبابي ضم يهوداً نيويوركيين يُشار إليهم بـ"جي ستريت" أو "الشارع اليهودي"، أو من يُطلق عليهم "جيل زد Generation Z"، الذي يضم كل الديانات، وهم على النقيض من آيباك.
من المهم أن نعلم أن لطوفان الأقصى ـ وأتمنى أن لا يتردد أحد في الإشادة به برغم الخسائر البشرية والمادية الفادحة في غزة والضفة ـ دوراً مركزياً في هذا التحول، وفي خدمة قضية فلسطين في كل أنحاء العالم، أقوى من أي قرارات عربية أو دولية.
هذا الجيل تميز بفعله عن نظرائه العرب الصامتين بالإكراه، في رفضه العملي للقتل والتجويع والإبادة الجماعية والتطهير العرقي في غزة والضفة، وإضفائه مشروعية دولية على المقاومة الفلسطينية، استنكرتها وأنكرتها عليها السلطة الفلسطينية في رام الله التي تتسول دولة كسيحة أشبه بمجلس بلدي.
هذا الجيل يحمل قناعات سياسية مختلفة كلياً، مناقضة للدوجما الصهيونية، ولأكاذيب منظمة آيباك التي تتسع الفجوة بينها وبين "جي ستريت" و"جيل زد".
لقد أعلن يهود نيويوركيون، من بينهم حاخامات، عن دعمهم لممداني ووضعوا يدهم في يده لمحاربة السامية، وهو ما يساعده على التصدي لآيباك ولإسرائيل ولترامب إذا ما عزفوا على هذه الأسطوانة المشروخة.
هؤلاء وغيرهم من يهود أمريكا قالوا مراراً إن إسرائيل لا تمثلهم، ومنهم من طالب بوقف الدعم العسكري والمالي لدولة الاحتلال، وهو ما لم تطلبه أي دولة عربية.
إن فوز ممداني سيجعل المسبحة تكرّ، وسيضعف نفوذ آيباك التي أفقدها طوفان الأقصى مساحة مهمة من قاعدة جماهيرية كانت تدعم إسرائيل وتتماهى مع سرديتها المضللة للصراع الفلسطيني - الصهيوني.
ويتوقع أن يستمر دورها في التراجع كصانعة لممثلي مصالح إسرائيل قبل مصالح أمريكا في الكونجرس وفي السلطة التنفيذية.
لقد كان آباء وأجداد جيل زد من أكبر داعمي إسرائيل، وفي عام 1948 حصدت جولدا مائير منهم خمسة ملايين دولار لدعم خزينة دولة الاحتلال الفارغة التي كانت بأمسّ الحاجة إلى مليون دولار فقط، ولكن مائير عادت بالخمسة التي أعفتها الحكومة الأمريكية من الضرائب.

ترامب الحزين:

بدلاً من أن يشيد ترامب بفوز ممداني كعلامة مضيئة في صالح الديمقراطية الأمريكية التي تقبل التنوع ولا تخاف من الاختلاف، ها هو يصف الفوز الذي لم تشبه شائبة، ولم يطعن هو شخصياً بنزاهته، بأنه فقدان لجزء من السيادة سيتولى الاهتمام به، وهو هنا لا يرى، كعنصري، ممداني سوى أنه محتل وغازٍ يجب تحرير نيويورك منه.
ترامب عبّر عن انزعاجه من فوز ممداني قبل الانتخابات بتهديده بحرمان نيويورك من الدعم المالي الفيدرالي، الذي يعد حقاً دستورياً للمدينة، ولا صلة له بمزاج الرئيس وموقفه من فوز خصومه السياسيين.
لكن سكان المدينة لم يخافوا من تهديده، وهذه هزيمة معنوية لدكتاتور يزعم أنه ديمقراطي.
إن من انحاز ودعم عدوان إسرائيل على غزة ويصمت على جرائمها في الضفة، لا يُتوقع منه الوقوف مع شخص له وجهة نظر مغايرة عن إسرائيل وسياساتها وجرائمها.
لقد أعلن ترامب، قبل أن يكمل الشهر الأول في البيت الأبيض، دعمه للتطهير العرقي للغزاويين لكي يبني منتجعات للقمار والسياحة فيما أسماه "ريفييرا غزة".
ترامب يرى، كإسرائيل، أن فوز ممداني يومٌ أسود، لأن نتنياهو بعد يناير القادم لن يتمكن من الهبوط في نيويورك، ولن يخطب في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لأنه سيُعتقل كمجرم حرب تطبيقاً لقرار محكمة الجنايات الدولية، ولن يستطيع ترامب مساعدته على الإفلات من العقاب كما يحاول منع القضاء الصهيوني من محاكمته بتهم الفساد والرشوة.

الكلمات الدلالية