الدولة لا تُولد في لحظة رومانسية
لا تُولد الدول كما تُولد الخطب ولا تُعلن كما تُعلن النوايا. الدولة كائن ثقيل الإيقاع بطيء الحركة لا يستجيب للعاطفة ولا يتأثر بالتصفيق، ولا يعترف بمن يصرخ باسمه من الشرفة ثم يطالبه بالوجود.
إعلان الدولة، خلافاً للأساطير الثورية، ليس لحظة رومانسية تُلتقط لها الصور، بل عملية جراحية باردة تُجرى تحت ضوء أبيض قاسٍ، في غرف مغلقة، وبأدوات لا تظهر في البيانات. يحتاج إلى أعصاب هادئة وملفات سميكة وحسابات دقيقة، أكثر مما يحتاج إلى حماس وأقل كثيراً مما يحتمل من شعارات.
الوهم الشائع أن الدولة تُصنع بإعلان، وأن العلم إذا ارتفع بما يكفي والنشيد إذا صرخ بما فيه الكفاية، فإن الجغرافيا ستشعر بالحرج والتاريخ سيصفق، والعالم بدافع الذهول أو الشفقة سيهرع للاعتراف. هذا الوهم جرّبه كثيرون، وبلهجات مختلفة، ولم يكافئه التاريخ مرة واحدة، لكنه مع ذلك لا يموت بل يعيد تدوير نفسه كل جيل.
الدولة في معناها الواقعي البارد ليست ما تقوله عن نفسك بل ما يقوله الآخرون عنك حين تُغلق الأبواب. هي نتاج اعتراف متبادل لا بيان أحادي. لا تكفي أن تُعلن نفسك دولة، بل يجب أن تُقنع محيطك أنك لن تكون مشكلة إضافية، وأن تُقنع الإقليم أنك قابل للإدارة، وأن تطمئن القوى الكبرى أنك لن تفتح ملفاً جديداً على طاولاتهم المزدحمة. من دون ذلك، يظل الإعلان مجرد تمرين لغوي، لا أكثر. يصلح للنشر لا للحياة.
التجارب الحديثة والقريبة جداً تقول إن الدول لا تولد من فراغ، بل من تنسيق طويل النفس، ومفاوضات مملة، ومقايضات لا تُكتب في البيانات. الاعتراف الإقليمي ليس تفصيلاً بروتوكولياً، بل شرط وجود. فالدولة التي تولد من دون موافقة الجوار تولد محاصرة، والدولة التي تتجاهل ميزان القوى الإقليمي تتحول بسرعة إلى عبء على نفسها قبل أن تكون عبئاً على غيرها.
أما الاعتراف الدولي فليس شهادة حسن سلوك أخلاقي بل عقد مصلحة. العالم لا يعترف لأنك مظلوم، ولا لأنك صاحب قضية عادلة، بل لأنك تملأ فراغاً دون أن تخلق فوضى أكبر. الدول الكبرى لا تبحث عن عدالة التاريخ بل عن استقرار الخرائط. ومن لا يفهم هذه القاعدة، سيظل يفسر الصمت الدولي على أنه تآمر لا على أنه رفض محسوب.
الأخطر أن بعض المشاريع السياسية تتعامل مع الاعتراف وكأنه مرحلة لاحقة، يمكن تأجيلها إلى ما بعد الإعلان. تُعلن أولاً ثم نفرض أنفسنا ثم يأتي العالم لاحقاً ليعترف. لكن التاريخ يقول العكس: من لم يحصل على الحد الأدنى من القبول الإقليمي قبل الإعلان لن يحصل عليه بعده، لأن الإعلان غير المنسق لا يفرض واقعاً، بل يحرج الداعمين المحتملين ويدفعهم إلى غسل أيديهم منه مبكراً.
الدولة ليست فعل شجاعة فردية بل نتيجة شبكة مصالح معقدة. لا تُبنى بالاندفاع بل بالصبر. ولا تُولد من خطاب حاد بل من لغة طمأنة طويلة ومملة. ولهذا، تبدو بعض الإعلانات السياسية، مهما بدت قوية في الداخل، بلا وزن حقيقي في الخارج. صوتها عالٍ لكن صداها قصير.
الدولة لا تُستعاد لأنها كانت موجودة يوماً بل لأنها أصبحت ممكنة في ميزان الإقليم والعالم. الاعتراف الإقليمي شرط وجود، والاعتراف الدولي عقد مصلحة لا مكافأة أخلاقية. أما إعلان الدولة بلا تنسيق فليس بطولة بل قفز من طائرة بلا مظلة، مشهد مثير في لحظته، لكنه ينتهي بسقوط وحيد، بينما تواصل الجغرافيا رحلتها بلا اكتراث.