الشعر وصراع القديم والحديث
بِمصر، في خمسينات وستينات القرن الماضي، كَانَ محمود عباس العَقَّاد رئيس «لجنة الشعر في المجلس الأعلى للفنون والآداب»، وَكَانَ خَصمًا لَدُودًا لقصيدة التفعيلة.
كَانَ حِينها الصراع الفكري والأدبي والسياسي يغمر الحياة العربية في العديد من الأقطار العربية.
حَصلَ الشاعران: صلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي على دعوة حضور «مهرجان الشعر» في دمشق. فوافق يوسف السباعي على حضورهما، وَهَدَّدَ العَقَّاد بالاستقالة؛ فهو لا يعتبرهما شاعرين. فَرَّدَ عليه عبد المعطي حجازي بهذه القصيدة:
«ِمنْ أيِّ بَحرٍ عَصِيِّ الرِّيحِ تَطلُبهُ
إنْ كُنتَ تَبكِيْ عَليهِ نَحنُ نَكتُبهُ
يَا مَنْ يُجَادِلُ في كُلِّ الأمُورِ وَلا
يَكادُ يُتقنُ شَيئًا أو يُقَاربُهُ!
أقولُ فِيكَ هِجَائِي وَهُوَ أولُّهْ
وَأنتَ أولُّ مَهجُوٍّ وَآخِرهُ!
تَعيشُ فِيْ عَصرِنَا ضَيفًا وَتَشتُمُنَا
أنَّا بِآلائهِ نَشدُو وَنُطرِبُهُ
وَنَحنُ مَنْ يَمنحُ الأيَّامَ مَطلَبَهَا
وَفِيكَ ضَاعَ مِنْ التَّاريِخِ مَطلَبهُ
وَفِيكَ لا أمْسُنَا زَاهٍ وَلا غَدُنَا
وَفِيكَ أبهَتُ مَا فِينَا وَأكذَبُهُ
وَتدَّعِي الرَّأيَ فِيمَا أنتَ مُتَّهمٌ
فِيهِ وَتَسأَلُنَا عَمَّا تُخرِّبُهُ
وَأنَّهُ الحُمْقُ لا رَأيٌ وَلا أدَبٌ
يُعطِيكَ رَبُّ الوَرَى رَأسًا فَتركَبهُ
دارت المعركة في الوطن العربي مِنْ حول القصيدة النَّثريِّة، وَكَانت العراقُ السَّبَاقَة: بدر شاكر السيَّاب، ونازك الملائكة، وبَلَند الحيدري، ثُمَّ البيَّاتِي، وسعدي يوسف، وعشرات غيرهم.
شُنَّتْ حملات قَاسية ضِد مجلة «شِعر» في بيروت التي أسسها يوسف الخال، وكانت قد احتفت بالقصيدة الحديثة والنقد. وَصَدرَ أول ديوان لأنَسِي الحاج: «لَنْ».
وَفي مصر دَارَ صِراع القديم والحديث بَينَ القِممَ الكَبيرة: زكي مبارك، وطه حسين، والعقاد، والرافعي، وباكثير. وَمن الشباب: محمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس، ومندور، وحجازي، وصلاح عبد الصبور.
وفي اليمن بدأت المعركة الأدبية والفكرية والسياسية أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان الرائد الكبير محمد علي لقمان رئيس تحرير «فتاة الجزيرة»، عام 1940.
وَبَدأ التَّجدِيد في قصيدة التفعيلة في المهجر محمد أنعم غالب. وعبده عثمان، وإبراهيم صادق.
وفي عدن وصنعاء: أحمد الشامي، وعلي عبد العزيز نصر، ولطفي جعفر أمان، ومحمد عبده غانم، وعبد العزيز المقالح.
اضطلعت «الحكمة اليمانية» بدور الإصلاح والريادة في الحياة الفكرية والأدبية أواخر ثلاثينات القرن الماضي في صنعاء، وَمَثَّلَ صدور مجلة «المستقبل» حركة التجديد والحداثة في الخمسينات الأكثر مُعَاصَرة: باسنيد، وعبد الله عبد الرزاق باذيب.
وَكَانتْ دعوات التجديد في المهاجر الحضرمية- في جنوب شرق آسيا مبكرة ومُتَّسِعة وَمُهِمَّة، وصدر ما يقرب من أربعين صحيفة، وبرز أبو بكر بن شهاب كرائد إحيَائي.
اتخذ الجدل -بشأن حداثة القصيدة في اليمن في سبعينات القرن الماضي- بُعدًا غَرائبيًا. فالبردوني والمقالح؛ وهما الشاعران الكبيران والقامتان الأدبيتان السامقتان، كانا يرمزان كأنموذجي القديم، والجديد في حداثة القصيدة.
وفي حين كان البردوني يَسْخَر من شعراء القصيدة المنثورة، كَانَ يُبدِعُ شِعرًا -عَبرَ دَواوينهِ الكاثرة- مَوزونًا وَمُقفَّى، وأكثرَ حَداثةً مِنْ جُلّ شُعراءِ الحداثة.
أمَّا الدكتور عبد العزيز المقالح فَكانَ المشجع الأكبر لشعراء الحداثة، مُدرِكًا-كشاعر وناقد- أهميَّة الإجادة والإبداع في القصيدة: عموديةً كانت، أو منثورة، وكَانَ مُبدِعًا في اللونين.
بعد تشكيل «اتحاد الأدباء والكتاب»، وتلاقي الآباء والأبناء، وبروز الاختلاف بينهم حَولَ عمود الشعر، وقصيدة النثر، كَانَ هذا الخلاف يتخذ شكل التنابز بالألقاب.
وكان الشاعر الكبير الرائد محمد سعيد جرادة يَسخَر مِنْ أبنائه الشعراء الجدد: فريد بركات، وعبد الله علوان. فعندما يرددون رؤيتهم في أهمية التغني بالعمل وَقِيمِهِ، بَدَلاً مِنْ الدَّل والدَّلال، والمفاتن والجمال، والخدود والنهود، والعيون الساحرة والقدود، كَانَ يجيبهم:
عَيناكِ مِطرقةٌ وَأنفُكِ مِنجَلٌ
وَالقُربُ مِنكِ مَوقِفٌ تَكتِيكِيْ
وَالخَصْرُ مِنكِ مُؤدلَجٌ وَمُنظَّمٌ
لَمْ يَرتَبطْ بِمُخطَّطٍ أمرِيكِيْ
أمَّا الأستاذ عبد الله البردوني فكان يتكئ على الشاعر عبد الله هاشم الكبسي، ومحمد الشاطبي، وَرُبَّمَا كَتبَ مَقاطعَ على لسان آخرين:
قَد قُلتَلِشْ: لا تاكُليْ طَمَاطِيسْ
شَتحَمِّريْ
شَتحَمِّريْ شَتحَمِّرِيْ
ومرة سأل البردوني الشاعر حسن اللوزي سَماعَ بعض قصائده؛ فقرأ الأستاذ حسن قصيدة، وفيها:
الشَّمسُ تُشرقُ في عَيني حَبيبتي
فعلق البردوني ضَاحِكًا: الشمس تشرق حتى في عُيون الكلاب.
كانت مرحلة السبعينات مرحلة التأسيس، وتلاقي القديم والجديد رغم مظاهر الاختلاف.