مدرسة عمار بن ياسر
الإهداء:
إلى الأصدقاء نبيل حزام ونوفل البعداني، الذين رحلوا بصمت، وظلّت ذكراهم تنبض في القلب،
رحمهما الله.
كان ذلك منذ حوالي سنتين، حين عدت إلى المدينة بعد طول انتظار، بعد أن فُتح الطريق أخيرًا. وقفت أمام المدرسة... لكن المشهد لم يكن كما عهدته. كانت أطلالًا من الخراب، الجدران التي كانت يومًا تنبض بالحياة، وتزهو برسومات أستاذنا أحمد الحفياني، صارت مهدمة باهتة، كأنها مرآة تعكس ما تهدم في بعض النفوس.
وحين سألني الضابط: "من أين أنت؟" التفت نحو المدرسة، وكانت تقف هناك بصمت، كأنها تنتظر أن أجيب باسمها. وكادت الكلمات تفلت من لساني: "أنا من مدرسة عمار بن ياسر..." فهي لم تكن مجرد مبنى، بل وطن صغير، تربينا فيه...
درست في مدرسة عمار بن ياسر، حيث قضيت ثلاثة أعوام في الصفوف الأخيرة من المرحلة الابتدائية. كان المدير آنذاك الأستاذ عبدالكافي المنيفي، ببدلته الرمادية وربطة عنقه المتناسقة، رجلًا هادئًا لا يرفع صوته كثيرًا، لكنه يترك أثرًا في الممرات. أما مربي صفنا، فكان الأستاذ أحمد الحفياني، فنانًا سودانيًا لا يكتفي بالشرح، بل يزرع في جدران الفصل ألوانًا، وفي نفوسنا أخلاقًا. كان يرسم شجرة على الحائط، وكنا نشعر أننا نكبر معها. أصبحت المدرسة كأنها لوحة جميلة بعد مجيئه، ومكث في محافظتنا سنوات طويلة، كأنها أحبّته كما أحببناه.
كانت شعبتنا "دال" مختلفة في مرحها، وفي أساتذتها الذين تركوا فينا بصمات لا تُنسى. كان يدرّسنا العلوم الأستاذ عبدالباري، رجلًا هادئًا خلوقًا، أصبح لاحقًا مديرًا لمدرسة الشعب. أما الجغرافيا، فدرسها لنا الأستاذ عبدالعزيز مهيوب، بطوله، ورشاقته، وهيبته، وعصاه التي يعرفها الجميع، وكلمته الشهيرة: "اقطب!" بسببه أحببت الجغرافيا،
ومن المفارقات أن زميلي طلال، الذي كان يجلس بجانبي في الصف، أصبح لاحقًا مديرًا للمدرسة نفسها.
كانت المدرسة تقف بضجيجها الهادئ بالقرب من قصر الشعب، تفرض حضورها كأنها تعرف أنها جزء من ذاكرة الجميع. مبنية من ثلاثة مبانٍ مستطيلة متجاورة، بحجر لونه أقرب إلى الطوب الأحمر، كل واحدة منها تشبه الأخرى، لكنك تشعر أن لكل منها طبعًا خاصًا. بين هذه الأبنية، تمتد ساحة ترابية، لا شيء فيها سوى خطوط باهتة رسمناها بأقدامنا، وأحلام صغيرة كنا نركض خلفها دون أن نعلم بتلاشيها. وشجرة كبيرة بالقرب من السور، نستظل تحتها.
في وقت الراحة، كنا نتهافت على مقصف الشيباني. فاصوليته البسيطة كانت تُشبه دفء البيت، وسندوتشاته كانت كفيلة بإسعادنا طوال اليوم. لم تكن تهمنا رائحة الدقة المنبعثة من مقصف كلية التربية المجاور،
ثم نتسابق إلى الساحة، نلعب "ترسُه"، لعبة تُضحكنا بلا سبب. من يجد زميله واقفًا، يركله برجله. لا أحد يسأل عن المغزى، فالمتعة وحدها كانت تكفي.
وفي جانب الساحة، ملعب كرة غير مستوٍ، فيه حفر صغيرة، لا يهم، فقد تعودنا على أماكن للعب أكثر سوءًا منه. كنا نأتي مبكرين، قبل أن يفتح الحارس البوابة. نصعد من السور، نحمل الكرة كأنها كنز، ونقسم الفرق بسرعة، دون حاجة لحكم أو جمهور. أحيانًا نتشاجر: من يلعب أولًا؟ لكننا نلعب بفرحة لا توصف، نتسابق خلف الكرة كأنها حلم. كانت الشمس تشرق ببطء، والهواء لا يزال باردًا، لكننا نصرخ ونضحك، ننسى كل شيء حين يسجل أحدنا هدفًا. كأن الملعب هو العالم، وكأن الكرة هي الحياة. نسترق الدقائق باللعب قبل أن يرن الجرس، ثم نتسابق إلى الصفوف، نترك خلفنا الملعب، لكنه لا يتركنا. نضحك ونصرخ، ونملأ الساحة حياة.
لم نكن نعلم أن تلك اللحظات العابرة ستتحول يومًا إلى ذاكرة من الحنين، وأن الأماكن التي احتضنت طفولتنا ستغدو مجرد أطلال.