الفقير ثروة الأغنياء... والدولة الفاشلة بنك احتياطي للدول العظمى
مقدمة: حين يصبح الفقر صناعة والدولة الفاشلة مشروعًا استثماريًا
في هذا العالم المقلوب، لم يعد الفقر لعنة، بل «استثمار طويل الأجل».
الفقير أصبح موردًا بشريًا يُستغل في المصانع، ويُستهلك في الحروب، ويُباع حلمه في نشرات الأخبار الإنسانية، بينما يزداد الغني غنى بابتسامته المتبرعة أمام الكاميرا.
أما الدولة الفاشلة؟ فهي فرصة ذهبية للدول الكبرى: أرض تجارب عسكرية، وسوق لتصريف الأسلحة، ومنجم للموارد بثمن "مساعدة إنسانية".
القسم النفسي: عقدة الفقير ونشوة الغني
الفقير لا يُعذَّب فقط بالحرمان، بل يُبرمج نفسيًا على القبول به.
منذ الطفولة، يُقال له: "القناعة كنز لا يفنى"، وكأنها رخصة رسمية ليبقى في الصف الأخير من الحياة.
أما الغني، فيعيش لذة السلطة الممزوجة بالشعور الإلهي: “أنا أنقذ الناس بفتات مالي”، وكأنه يمنّ على الكون بأنه وُلد في الجهة الصحيحة من البنك.
السياسيون بدورهم يستخدمون هذا العطب النفسي بذكاء شيطاني: يُفقِرون الناس أولًا، ثم يظهرون كـ"المنقذين"، في مشهد مألوف: السارق نفسه يعود ليقود حملة ضد السرقة.
القسم الاجتماعي: حين يُدرَّس الفقر في المدارس كمادة وطنية
في المجتمع الفقير، الفقر جزء من الهوية.
الناس تعيشه وتغنّي له وتتنافس في الصبر عليه.
الطفل يتربى على الحلم بأقل القليل، والفتاة على أن الزواج من موظف فقير “نصيب مبارك”، والمواطن على أن انتظار الفرج "عبادة وطنية".
كل هذا تحت شعار رسمي: "نحن شعبٌ صبور"؛ صبور على كل شيء... إلا الكرامة.
القسم الثقافي: الفقر كقيمة وطنية... والوعي كجريمة فكرية
الثقافة في الدول الفاشلة لا تُنتج فنًا، بل تُنتج "أفيونًا جماليًا" يُخدّر الوعي الجماعي.
يتحول الفقر إلى “قيمة” تُدرّس في الأغاني والمناهج والمسلسلات، حتى يصبح المواطن فخورًا بأنه فقير، ومقتنعًا أن التفكير في الغنى «قلة حياء».
الدراما تتغنى بـ"الفقير الطيب" الذي لا يثور، والشعر الشعبي يُكرّس “الرضا بالقسمة”، والأمثال تقول: “الي ما عنده ربنا عنده”، كأن السماء تعمل بدوام رسمي لتصحيح ظلم الأرض!
أما الإعلام، فيُخصص ساعات البث لـ“قصص إنسانية مؤثرة” عن الفقراء الذين لا يملكون شيئًا سوى الدعاء، ثم يقطع البث لإعلانٍ فاخر عن ساعةٍ بـسعر منزل شعبي!
المشكلة ليست في الجوع، بل في "تجميله".
في تحويل الألم إلى لوحة فنية تُعرض في معارض المانحين، وفي تصدير الفقر كصورة فولكلورية تُدرّ على الدولة الفاشلة ملايين الدولارات من المساعدات.
حتى المثقفون... بعضهم يرتدي قناع الثورة فوق بدلة أنيقة، يكتب عن الجياع بمداد من أفخر الأقلام الأجنبية، ويحاضر عن العدالة الاجتماعية من صالة مؤتمرٍ مكيفة، ثم يوقع اتفاقية شراكة “ثقافية” مع نفس الجهات التي تموّل الفقر من الخلف.
إنها ثقافة تُعيد طلاء الجدران المهدمة بدل أن تهدم السقف الفاسد.
ثقافة تزرع الخنوع في النفوس باسم الصبر، وتُخدر الغضب باسم الحكمة.
وحين يحاول أحدهم أن يفكر بصوتٍ مرتفع، يُتهم بأنه "ناكر للجميل" و"خارج عن الوطنية".
الفقر في ثقافتنا ليس عارًا... بل "شهادة أخلاق"!
والغنى ليس هدفًا... بل "تهمة طبقية"!
وهكذا يبقى العقل محاصرًا بين أسطورة "الزهد" ومسرحية "الكرامة"، حتى يستيقظ الناس ذات يوم ليكتشفوا أنهم لم يكونوا فقراء فقط، بل ضحايا ثقافة صُممت خصيصًا ليبقوا كذلك.
القسم الاقتصادي: الفقير مشروع تجاري لا ينضب
في الحسابات الاقتصادية، الفقير ليس مشكلة... بل منتج.
هو العامل الرخيص، والمستهلك الدائم للسلع الرديئة، والمقترض الأبدي من البنوك.
كل شيء مبني ليبقى فقيرًا: الأسعار ترتفع، الرواتب جامدة، والخدمات العامة تنهار، ثم يأتيك الاقتصادي الفاخر ليقول: "نحتاج إلى ضبط الإنفاق".
نعم، ولكن ضبط من؟
الشعب الذي لا يملك ما يُنفق؟ أم الوزير الذي يملك وطنًا في حساب خارجي؟
القسم السياسي: الدولة الفاشلة كـ"مؤسسة خدمات دولية"
حين تفشل دولة، تُفتح أبوابها كالمول التجاري:
الدول الكبرى تستثمر في الفوضى، توقّع عقود "مساعدة" لتأمين النفط والموانئ، وتبني قواعدها العسكرية لحماية "الديمقراطية"، أي لحماية أنابيب المصالح.
القادة المحليون يتحولون إلى سماسرة وطن، يتقنون التوقيع أكثر من التفكير، ويبيعون كل شيء من الأرض إلى القرار، ثم يصفقون لبعضهم ويعلنون "نجاح المرحلة".
القسم العسكري: الحرب كمشروع تنمية... في دفاتر الأغنياء
في الدول الفاشلة، الحرب ليست كارثة بل اقتصاد.
السلاح يُباع، والجنود يُقتلون، والبلد يُعاد بناؤه على حساب من دمّروه.
الجندي الفقير يموت بشعار "من أجل الوطن"، والقائد الثري يفاوض بشعار "من أجل الصفقة".
وهكذا، يتحول الوطن إلى ميدان تدريب عالمي مدفوع الأجر، ونحن وقوده المجاني.
القسم (الساخر المبكي): نشرة من دولة الفقر المتحدة
الحكومة تُعلن "خطة وطنية لإنهاء الفقر" عبر تشكيل لجنة من مليارديرات.
وزير التنمية يتحدث عن "تحسين معيشة المواطن" بينما راتبه يكفي لإطعام حي بأكمله.
ملياردير يتبرع بمليون للفقراء ثم يربح عشرة من مناقصة حكومية بعد أسبوع.
والمواطن يصفق للجميع... لأن التصفيق أسهل من الثورة.
القسم الأخير: آلية الخروج من النفق المظلم
لا أحد يخرج من النفق بالتمنّي، بل بالهدم المنظم لجدرانه.
1. كسر احتكار المال والسلطة:
فرض ضرائب تصاعدية على الثروات الكبيرة.
إغلاق منافذ تهريب الأموال.
محاسبة علنية وشفافة لكل مسؤول يمتلك أكثر مما يسمح به راتبه.
تحويل أموال الفساد إلى مشاريع عامة، لا شعارات إعلامية.
2. إصلاح جذري للأجور والتعليم والصحة:
رفع الحد الأدنى للأجور إلى مستوى كرامة لا إلى مستوى بقاء.
تعليم يحرر العقول لا يدرّب على الطاعة.
مستشفيات عامة تحترم الإنسان قبل جيبه.
3. القضاء على عبادة الزعيم وبناء دولة المؤسسات:
استبدال الولاء للأشخاص بالولاء للقانون.
فصل السلطات فعلًا، لا في الدستور فقط.
إعلام حرّ يفضح بدل أن يُجمّل.
4. بناء اقتصاد إنتاجي لا استهلاكي:
دعم المشاريع الصغيرة والتعاونيات الشعبية.
تشجيع الزراعة والصناعة المحلية بدل فتح الأبواب لكل مستورد يقتل السوق الوطنية.
تفعيل الرقابة على الشركات متعددة الجنسيات التي تستنزف الموارد وتترك الفتات.
5. إصلاح القطاع العسكري والأمني:
إنهاء تحويل الجيوش إلى شركات مقاولة.
دمج القوى المسلحة ضمن هيكل وطني خاضع للرقابة المدنية.
توجيه جزء من ميزانية الحرب إلى إعادة بناء الإنسان الذي قاتل.
6. تعبئة الوعي الشعبي:
توعية الناس بأن الفقر ليس قَدَرًا بل نتيجة سياسات.
دعم النقابات ومنظمات المجتمع المدني لتتحول من ديكور إلى سلطة ضغط حقيقية.
تحويل الغضب الشعبي من عاطفة إلى مشروع.
الخاتمة: حين يصبح الفقر خاسرًا
الخروج من هذا النفق لا يعني أن يُكرم الفقير بكيس طحين أو وعد انتخابي جديد، بل أن يُجبر الغني على دفع ثمن الفقر الذي صنعه.
أن يصبح الفساد مكلفًا، والعدل مربحًا، والمواطنة استثمارًا في الحياة لا في الموت.
حين نفهم أن الفقر ليس قدرًا بل صناعة... سنبدأ بإغلاق مصانع الفقر، مصنعًا بعد آخر، حتى لا يبقى من ثروة الأغنياء سوى ضمائرهم العارية.