صنعاء 19C امطار خفيفة

الذكرى السابعة لرحيل شيخ الأطباء النفسيين باليمن

"أيُّ قلبٍ عن الخفقان قد توقّف؟

أيُّ مشعلٍ للفكر قد انطفأ؟"

نكراسوف

صادف يوم الأول من نوفمبر 2025 الذكرى السابعة لوفاة الدكتور عبدالمجيد الخليدي، الطبيب النفسي الألمعي في اليمن.

لست هنا بصدد التعريف بالدكتور الخليدي، فهو أشهر من نار على علم في اليمن والوطن العربي، ولكني سأكتفي فقط بالتذكير ببعضٍ من أبرز المهام التي تقلّدها وأسست لشهرته مهنيًّا وشعبيًّا وحكوميًّا، حيث يعتبر الدكتور الخليدي أول طبيبٍ نفسي يمنيٍّ تخرّج من الاتحاد السوفيتي سابقًا (جمهورية روسيا اليوم) عام 1975. وهو ثاني طبيبٍ نفسي في اليمن بعد الدكتور الأسطورة عبدالقادر الكاف – رحمه الله – الذي تخرّج من مصر عام 1962، وعاد مباشرة للعمل في صنعاء في مرحلة تطوّر العلاقة بين القاهرة وصنعاء بعد ثورة 26 سبتمبر 1962، وتأثّر الكوادر المتخرّجة بالحماسة الوطنية آنذاك.

ترقّى د. خليدي في عدّة مناصب في السلم الوظيفي على مستوى وزارة الصحة، بدءًا من مدير برنامج الطب العلاجي 1975، ثم مدير عام الخدمات الصحية 1976، ومدير إدارة التقنية والبحوث 1983-1989، ومدير إدارة الصحة النفسية بالوزارة 1986-1990. كما ترقّى في السلم المجتمعي، وحظي بدعم القيادة السياسية، وأصبح عضوًا في المجلس الاستشاري (الغرفة الثانية لمجلس النواب) ممثلًا للقطاع الصحي عام 2002، واختتم مسيرته المهنية عام 2008 كوكيلٍ لوزارة الصحة في اليمن.

د. عبدالمجيد سعيد الخليدي

على صعيد البناء المؤسسي المهني، أسّس الجمعية اليمنية للأمراض النفسية والعصبية عام 1988، وظلّ رئيسها حتى عام 2002. انتُخب د. خليدي رئيسًا للاتحاد العربي للطب النفسي في نوفمبر عام 1989 على هامش مؤتمره الدوري الذي انعقد في صنعاء حتى عام 1992، كما انتُخب نقيبًا للأطباء والصيادلة اليمنيين للفترة من 1995-2002، ورئيسًا لاتحاد الأطباء العرب 1996-1997، ونائب رئيس الاتحاد العالمي للأمراض النفسية والعصبية 1996-2002.

بعد تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990، افتتح د. خليدي – في شارع الزبيري الأشهر بصنعاء – أول مركزٍ خاصٍّ للطب النفسي عام 1993.

من ذلك العرض العام التذكيري بسيرته العطرة، أعود إلى استذكار بعض المحطات التاريخية والمهنية التي جمعتني شخصيًّا بالدكتور الخليدي.

اللقاء الأول: ندوة الصحة النفسية اليوم

في مارس عام 1991 نظّمت الجمعية اليمنية للأمراض النفسية (رئيسها د. عبدالمجيد الخليدي) بالتعاون مع الجمعية النفسية اليمنية (رئيسها د. حسن قاسم) في كلية الطب بجامعة عدن ومستشفى الأمراض النفسية التعليمي بعدن (مديره آنذاك الاختصاصي النفساني د. خالد سلامي – رحمه الله –) ندوة عن واقع الصحة النفسية اليوم في اليمن. كانت ندوةً ليومين فقط، قُدّمت فيها أوراق من زملاء الاختصاص، معظمهم من اختصاص الطب النفسي من صنعاء وتعز وعدن.

على هامش الندوة كان لقائي الأول بالدكتور الخليدي (كنت حينها الأمين العام للجمعية النفسية اليمنية ومعيدًا بكلية الطب بعدن). خرجت بانطباعٍ إيجابي، وتكشّفت لي شخصية د. خليدي الودودة، الذكية، والموسوعية في ثقافتها الدينية واللغوية والتاريخية والسياسية والوطنية الناضجة.

اللقاء الثاني: ندوة جناح الأحداث

على هامش الأعمال التحضيرية لانعقاد ندوة "جناح الأحداث في اليمن" ديسمبر 1991، تكلّفت وزميلي رئيس الجمعية النفسية اليمنية د. حسن قاسم بتنظيم زيارات مكوكية من عدن إلى صنعاء للبحث عن مصادر لدعم الندوة، وكذلك لأعمال التنسيق مع الجهات المشتركة. وخلال تلك الزيارات كانت لنا لقاءات خاصة، دعانا فيها د. الخليدي إلى منزله في صنعاء، حيث كانت فسحةً كبيرة للتعارف عن قرب، والغور في عوالمه المتعددة.

الخليدي

أتذكّر أنّه جمعنا في إحداها بديوانه الجميل لتعاطي القات، وبحضور نخبة من رجال السياسة والطب والأدب والفن (أتذكر منهم هنا د. حسن السلامي وزير التربية في عدن قبل الوحدة، والطبيب النفسي المعروف د. أحمد محمد مكي، والمغني الشهير عبدالرحمن الحداد) الذي استمتعنا بصوته الجميل وعزفه الأجمل على العود.

اللقاء الثالث: ندوة الفصام في اليمن

حرص الدكتور الخليدي ضمن خطة لتفعيل وتطوير نشاط الجمعية اليمنية للأمراض النفسية على تنظيم لقاءٍ علميٍّ سنوي، وكان ذلك اللقاء – بالإضافة إلى الإثراء العلمي وتبادل الخبرات والمعارف محليًّا وعربيًّا – فرصةً لحشد اختصاصيي الصحة النفسية باليمن وتقريب العلاقة بين الزملاء الأطباء النفسيين واختصاصيي علم النفس السريري.

في مارس عام 2000 نظّمت ندوة عن الفصام في اليمن، وقدّمت أوراق ومداخلات قيّمة جدًّا عن الواقع اليمني، كما كانت هناك مشاركة عربية لطبيبٍ نفسيٍّ مرموق، وهو د. وليد سرحان من الأردن.

حثّنا د. خليدي على المشاركة والتواصل بين الزملاء، وكانت تلك فرصة بالنسبة لي للتعرّف على البروفيسور وليد سرحان كنموذجٍ لشخصية الطبيب النفسي العربي المتواضع والمتمكن من مهنته، والمعلم النصوح للأجيال. ذلك اللقاء ما كان ليكون لولا دكتورنا العزيز – رحمه الله – د. الخليدي.

بعد عامٍ تقريبًا، في صيف 2001، كانت لي فرصة لزيارة الأردن، وحرصت على أن أزور د. وليد سرحان في مركزه "مركز الرشيد"، إن لم تخنّي الذاكرة.

اللقاء الرابع: ندوة الاكتئاب باليمن

استمراريةً لنشاطات الجمعية اليمنية للأمراض النفسية، نُظّمت الندوة السنوية عن الاكتئاب باليمن في سبتمبر 2001 في فندق رمادة حدة – صنعاء، برئاسة د. خليدي. شارك، كما تعوّدنا، ثلّة من زملاء الطب النفسي في معظم محافظات اليمن، وعددٌ لا يُستهان به من اختصاصيي علم النفس. وتميّزت هذه الندوة بحضور شخصية عربية اختصاصية متميزة، وهو د. أديب العسلي من سوريا.

كنّا في اليوم الأخير، ونحن في مجلس قات على خاتمة أعمال الندوة، حينما عُرضت على شاشة التلفاز لقطاتٌ لهجوم طائرات على برجي التجارة في نيويورك. كعادة نقاشات مجلس القات، جرت تحليلاتٌ عديدة لتلك الأحداث، وعبّر د. الخليدي عن توقعاتٍ وتقديراتٍ مثيرةٍ للاهتمام، وصَدَقَت فيها الكثير من تلك التوقعات التي عبّرت عن خبرةٍ حدسيةٍ سياسيةٍ عالية.

خاتمة

لا بدّ من الإشارة إلى أنّه كلما تيسّرت لي الفرصة لزيارة صنعاء – لأغراض مناقشة رسائل تخرج بجامعة صنعاء أو لقاءات المجتمع المدني – حرصت على التواصل مع د. الخليدي وزيارته في مركزه الطبي. كنت منبهرًا بحسّه الفني الرفيع في تصميم ديكور مركزه الطبي الذي تزدان جدرانه بلوحاتٍ فنيةٍ لرسامين يمنيين حملت الكثير من التعبيرات عن مفاهيم الشخصية وعلاقتها بالصحة النفسية، وكانت مثار مناقشاتنا في كل زيارة. كنت أتعرف فيها على أمرٍ جديد، سواء أقصوصة أو أمثال شعبية – التي أبرع في حفظها – أو عن رؤيته الملهمة لتوطين المعرفة السلوكية والنفسية في الواقع اليمني.

رحمه الله دكتورنا القدير عبدالمجيد الخليدي، وجعله رمزًا ونموذجًا

وطنيًّا وعربيًّا فذًّا للأجيال في حقل الاختصاص.

الكلمات الدلالية