الإمارات وهندسة الخرائط المحروقة
الإمارات الدولة الصغيرة الغارقة في البريق والموانئ لم تصنع مجدها بالكتب أو التكنولوجيا بل بالمليشيات.. إسبارطة الخليج كما يسميها أصدقاؤها في الغرب بإعجاب عسكري مريب، لكنها إسبارطة بلا فيلسوف وبلا مدينة فاضلة، بل جيوش من الوكلاء يحملون بنادقها في ثلاث قارات، يتقاتلون بالنيابة عنها على خرائط كانت كاملة يومًا. خرائط أصبح رسمها الآن يشبه محاولة طفل لا يعرف المقاسات الصحيحة للرسم على جدران المنزل.
في ليبيا قررت الإمارات أن تتبنى جنرالًا متقاعدًا من سلة التاريخ الليبي اسمه خليفة حفتر. الرجل الذي قضى سنواته في المنفى الأمريكي عاد بفضل أموال وسلاح أبوظبي ليخوض حربًا ضد أشباح الثورة الليبية.
أطلقت الإمارات طائراتها لقصف طرابلس ليس حبًا في الديمقراطية ولا غيرة على النفط، بل كراهية قديمة لكل ما له رائحة ثورة أو صندوق اقتراع. وحين فشل حفتر في توحيد ليبيا، قررت أبوظبي أن تقسمها معه، نصفها شرقي بقبعة عسكرية، ونصفها غربي محاصر بين الميليشيات، وكأن التاريخ نفسه يضحك من كثرة العبث.
ثم جاء الدور على اليمن حيث تدخلت الإمارات تحت شعار "استعادة الشرعية"، قبل أن تستعيد شيئًا آخر تمامًا، الموانئ والمطارات وقرار الحرب والسلم. من عدن إلى سقطرى ومن شبوة إلى حضرموت، صنعت أبوظبي مليشيات مسلحة تحت لافتات براقة، تسميات تخفي واقعًا واحدًا، دولة موازية داخل الدولة أو ربما لعبة محاكاة للسيطرة على الأرض.
تحولت عدن إلى نسخة مصغرة من أبوظبي ولكن بلا ناطحات سحاب، فقط أعلام الانفصال، صور القادة المدعومين إماراتيًا، وسجون سرية بلهجة خليجية، وكل قمع مشروع باسم مكافحة الإرهاب، وكل قرار من خارج الحدود.
وفي السودان عثرت أبوظبي على حليف آخر من طراز "حميدتي" الجنرال الذي صعد من رماد دارفور محمّلًا بذهبها ودمها. الرجل الذي كوّن ثروته من تهريب الذهب عبر سوق دبي، دعمته الإمارات بالسلاح والمشورة، وحين انقلب على شريكه البرهان، كان الدعم يتدفق عبر طرق سرية رغم حظر الأمم المتحدة. ظهرت قذائف بلغارية في يد قوات الدعم السريع تمامًا كما ظهرت طائرات إماراتية في سماء طرابلس، وكأن التاريخ يعيد نفسه مع نسخة محدثة من مسرحية قديمة.
في كل مكان تكرر المشهد نفسه، دولة صغيرة تشتري الميليشيات وتعيد رسم الخرائط. لا تبحث عن الوحدة العربية، بل عن نسخة مجزأة يمكن إدارتها من برج خليفة. ليبيا شرقية، يمن جنوبي، سودان مقسوم. السياسة أصبحت مشروع هندسي والحدود خطوط مقاولات.
اليوم على خريطة المنطقة ترى راية إماراتية صغيرة ترفرف فوق كل قاعدة، ميناء، أو معسكر. لا احتلال رسمي مطلوب، يكفي احتلال القرار. مشروع "الاستقرار العربي" صار شبكة وكلاء يحمل كل منهم سلاحه بتمويل إماراتي ويحلم بدولة مستقلة عن وطنه، وكأنهم جزء من كوميديا دموية كبيرة بلا جمهور.
الإمارات التي تخشى ثورة داخلها، أطفأت الثورات في الخارج بالرصاص والذهب، فصنعت عالم عربي تتنازعه الميليشيات بلا دول، بلا مؤسسات، بلا مستقبل.. التاريخ لا ينسى لكنه أحيانًا يضحك قبل أن يكتب، ضحكته تسخر من كل من يظن أن السياسة تدار بأدوات الشرف.