نقد خطاب التنوير عند الدكتور محمد حيدرة مسدوس
بين الحتمية السلطوية ووهم الضرورة الموضوعية
تُعد سلسلة "موضوعات للتنوير" التي يقدّمها الدكتور محمد حيدرة مسدوس محاولةً لإعادة بناء رؤية فكرية للواقع السياسي الجنوبي، ضمن ما يسميه الكاتب "التنوير السياسي والاجتماعي".
غير أن القراءة التحليلية المتأنية لمحتوى هذه السلسلة، وخصوصًا "موضوعات رقم 211" حول ما سماه “ضرورة قيام الجبهة”، تكشف أن ما يطرحه مسدوس لا ينتمي إلى التنوير بمعناه التحرري، بل إلى نزعة سلطوية مغلّفة بلغة فلسفية تسعى لتبرير حكمٍ بلا معارضة، تحت مسمى “الضرورة الموضوعية”.
1. الحتمية السلطوية باسم التنوير
يؤكد الدكتور مسدوس أن المجتمعات المتخلفة تحتاج إلى سلطة بلا معارضة، وأن ظهور المعارضة في مثل هذه البيئات يؤدي حتمًا إلى الفوضى.
وهذا الطرح، رغم أنه يتكئ على فكرة “المرحلة الانتقالية”، إلا أنه يُعيد إنتاج مقولات الاستبداد الأبوي التي سادت في العالم الثالث بعد الاستقلال.
فالاستقرار الحقيقي لا يتحقق بغياب المعارضة، بل بتوازن المؤسسات، ووجود نظام مساءلة يحدّ من الفساد ويضمن استمرارية الدولة.
2. مغالطة القياس بين الملكيات والجمهوريات
يستدل مسدوس باستقرار الأنظمة الملكية العربية مقابل اضطراب الجمهوريات، ليخلص إلى أن “الواقع يتطلب سلطة بلا معارضة”.
وهذا قياس فاسد من حيث المنهج، لأن الاستقرار الملكي ليس ناتجًا عن غياب المعارضة، بل عن شرعية تاريخية وتوازنات مؤسسية وثقافية رسختها التجربة.
أما الجمهوريات، فاضطرابها لا يعود إلى وجود المعارضة، بل إلى فشلها في بناء مؤسسات مدنية تحكمها القوانين لا الولاءات.
3. “ولاية الجبهة” وإلغاء السياسة
يقترح مسدوس قيام “جبهة واحدة تضم الجميع”، تمثّل في نظره صيغة وسطى بين الديمقراطية الغربية والواقع الجنوبي “غير القابل لها”.
غير أن هذه الفكرة تُعيدنا عمليًا إلى نموذج الحزب الواحد الذي جرّبته أنظمة عديدة وفشلت فيه، لأنه يُلغي التعدد ويحوّل الدولة إلى جهاز تعبئة أيديولوجي.
فالجبهة الجامعة بهذا المفهوم تُعطّل السياسة وتختزل المجتمع في سلطة واحدة، في حين أن التعددية هي جوهر الحياة السياسية لا عائقها.
4. الخلط بين الاقتصاد والسياسة
ينطلق مسدوس من فرضية ماركسية مبسّطة، مفادها أن ظهور الطبقات الاقتصادية شرطٌ لظهور الأحزاب والتداول السلمي للسلطة.
لكن الواقع يُثبت أن التطور السياسي لا يخضع للحتمية الاقتصادية وحدها؛ فالهند مثلًا دخلت الديمقراطية وهي بلد فقير، بينما فشلت دول نفطية غنية في بناء نظام سياسي متوازن.
فالتحول السياسي يحتاج إلى وعيٍ ومؤسساتٍ وثقافةٍ مدنية، لا إلى انتظار تشكّل طبقات اقتصادية بالمعنى الماركسي.
5. التنوير الذي يُغلق باب التنوير
يختم مسدوس مقاله بقوله إن ما أورده “مسلّمات لا يستطيع أي مفكر دحضها”، وهي جملة تُناقض جوهر التنوير نفسه، الذي يقوم على الشكّ والنقد والمساءلة.
فحين يتحوّل الفكر إلى “يقينٍ لا يُجادل”، يصبح أقرب إلى العقيدة الأيديولوجية منه إلى مشروعٍ تنويري.
إن “تنوير مسدوس” في جوهره ليس دعوةً إلى تحرير العقل، بل إلى إعادة تأطيره داخل رؤيةٍ سلطوية مغلقة.
6. بين تنوير السلطة وتنوير الحرية
إن مشروع مسدوس الفكري يقدّم نفسه كخطةٍ فكرية للخروج من المأزق الجنوبي، لكنه في الحقيقة يكرّس المأزق ذاته بلغةٍ فلسفية جديدة.
فبدلًا من تفكيك بنية الهيمنة، يُعيد إنتاجها؛ وبدلًا من فتح المجال أمام التعدد، يُغلقه بحجة “الضرورة الموضوعية”.
إن التنوير الذي يحتاجه الجنوب — واليمن عمومًا — ليس تنويرًا للسلطة، بل تنويرًا للحرية؛ تنويرًا يضع العقل فوق الأيديولوجيا، والإنسان فوق السلطة، والمساءلة فوق الوصاية.
خلاصة:
يبقى خطاب الدكتور محمد حيدرة مسدوس مثيرًا للاهتمام من حيث طموحه لبناء نظرية “جنوبية” في الفكر السياسي، لكنه يسقط في فخّ الاستبداد المبرَّر فلسفيًا.
والتاريخ يؤكد أن المجتمعات لا تتقدّم بالوصاية الفكرية، بل بحرية التفكير والتعبير، لأن العقل لا يُصلَح بالقهر، بل بالحوار.