هل تعاود الحرب في اليمن؟!
نعم، ما لم يحدث تغير في الإدارة الإقليمية والدولية للملف اليمني. فهناك ما يعمل على دفع الأمور نحو التصعيد، فالأرضية السياسية لم تتغير كثيراً أو بما يكفي لتجنب الحرب. والهدنة القائمة منذ عام 2022 لا تعكس الاقتراب من نهاية الحرب أو من السلام، وتبدو أقرب إلى استراحة بين حربين، أو ليست أكثر من حالة مؤقتة من ضبط النفس بين أطرافٍ تتبادل الشكوك أكثر مما تعبر عن نوايا السلام.
والهدنة بلا أفقٍ سياسي هي مجرد فاصل زمني بين حربين. حتى أنه يمكن أن تنهار نتيجة أي حادث عرضي. ورغم استمرار جهود الوساطة العمانية والأممية التي تحافظ على خطوط التواصل بين الأطراف، إلا أن نجاحها في تحويل الهدنة إلى عملية سياسية مستدامة أو منع عودة الحرب إلى ما لا نهاية يبقى احتمالاً ضعيفاً. والجمود الراهن لمسار السلام دليل ناجز على ذلك، وعلى هشاشة مسار السلام، وعلى أن أي حادث عرضي أو تصعيد محدود قد يكون كفيلاً بوقفه.
 تتزايد الضغوط على الأطراف المحلية بفعل تدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية وتراجع الخدمات الأساسية بسبب الانكماش الاقتصادي وانخفاض الإيرادات العامة وتقلص المساعدات الإنسانية والتنموية. هذه الظروف التي تخلق ضغطاً شعبيا متنامياً، تجعل من الحرب مدخلاً محتملا لتغيير الواقع القائم.
 في هذا السياق، تبدو الجماعة الحوثية أكثر الأطراف تضرراً. فاقتصاد مناطق سيطرتها تضرر بوضوح جراء تراجع حركة التجارة عبر الموانئ الغربية وتشديد العقوبات المفروضة عليها. ولدى الجماعة مخاوف من خسارة المكاسب التي جنتها أو تؤمنها التفاهمات السابقة مع السعودية. تلك الضغوط والمخاوف هي ما يقف وراء تصعيدها ضد السعودية والإمارات في الأسابيع الأخيرة، واتهامهما بالتآمر مع "العدو الصهيوني" والتهديد باستهدافهما. وهو تصعيد بدا كأنه تمهيد لمرحلة ما بعد حرب غزة، ويعكس شعوراً لدى الجماعة أنها باتت متفرغة لتصفية ما تعتبره "حسابات مستحقّة" مع الدولتين.
 لا شك أن مخاطر أي تصعيد عسكري قد تكون مرتفعة بالنسبة للجماعة، خصوصاً وقائمة خصومها أصبحت أطول من أي وقت. ومع الاعتراف بحقيقة أن حاجة الجماعة إلى الدعم الإيراني أصبحت أكثر إلحاحاً عما كان عليه الحال قبل حرب غزة، وأن هناك الكثير على المحك بالنسبة لإيران، وأي تصعيد سيتعارض مع حاجتها للتهدئة. ومع ذلك فالجماعة ما زالت تتمتع بهامش استقلال عن إيران وقدرة على اتخاذ قراراتها العسكرية. وسبق لها التصرف بالضد من تفضيلات طهران، كما حدث في التصعيد في البحر الأحمر وخليج عدن. والأهم أن تقديرها لضغوط استمرار الوضع الراهن ومخاطره الواقعية والمتصورة يبدو قوياً. ولا ننس حس الاندفاع لديها وتفضيلها لسياسة حافة الهاوية. وبالتأكيد ففشل ضغوطها وتهديداتها، ووصول المباحثات والوساطات مع الدولتين إلى طريق مسدود، سيضعها في موقف حرج ويدقعها للمضي في تهديدها. وخيارها الأنسب ينحصر في تصعيد عسكري محدود قد يشمل بعض الجبهات الداخلية و/أو تنفيذ عمليات استهداف محدودة لأهداف منتقاة في السعودية والإمارات. هذا الخيار يستجيب للضغوط التي تواجهها ولاحتياجاتها المعنوية والسياسية المتصورة، ويترك في نفس الوقت فرصة أو باباً للمراجعة، على الأقل كما قد تتصور. صحيح أنه ينطوي على مخاطر الانزلاق إلى حرب واسعة، لكنها تراهن على استشعار الدولتين لمخاطر أكبر عليهما في مواجهة واسعة، وكذلك على ضعف استجابة حلفائهما الغربيين.
 من جهتهم، يفضل الحكومة اليمنية وأغلب حلفاؤها المحليين الحرب. فلديهم قناعة بعدم إمكانية التوصل مع الجماعة الحوثية إلى اتفاق سلام معقول، أو أن الجماعة ستلتزم بأي اتفاق يمكن التوصل إليه معها. الأزمة الخانقة في المالية العامة نتيجة توقف صادرات النفط تشكل حافزاً إضافيا للتصعيد.
 ورغم أن هؤلاء غير قادرين على التحرك العسكري بصورة منفردة ودون موافقة السعودية والإمارات، إلان أنهم قد لا يعدمون طريقة للتصعيد، فقد يجدون في أي تصعيد حوثي فرصة لتجاوز هذا العائق وجر الحلفاء الإقليميين إلى الحرب. وفي هذا السياق ينبغي الإشارة إلى التعزيزات والتحشيدات التي شهدتها مؤخراً ومازالت تشهدها خطوط التماس من قبل طرفي الحرب.
 الفاعلون الإقليميون، من جهتهم، باتوا أسرى توازنات دقيقة ومتناقضة، هذه الحسابات تجعلهم حريصين على تجنب الحرب، لكنها أيضاً تحول دون التقدم في مسار السلام. ولذلك انتقل هؤلاء ببراغماتية حذرة إلى "إدارة الصراع"، وهي مقاربة غير مستدامة. والسعودية والإمارات وبقدر حرصهما على تجنب معاودة الحرب، لم تجدا بعد صيغة للسلام تُرضي الحوثيين وتحافظ في نفس الوقت على نفوذها، وتتفق مع واشنطن وحلفائها الغربيين وتضمن عدم معارضتهم. إن تعطيل تنفيذ خارطة الطريق التي سبق التوصل إليها بين الرياض والجماعة الحوثية، يعكس حجم التباين في حسابات الرياض وحلفائها الغربيين، ويشير إلى صعوبة إقدامها على عقد اتفاق سلام لا يواق عليه الحلفاء الغربيون.
 إيران من جهتها لا تريد الحرب، فالتصعيد لا ينسجم مع موقفها العسكري والتفاوضي والسياسي الذي أصبح اليوم أكثر ضعفاً وحساسية، ويهدد المباحثات غير المباشرة والمحتملة حول ملفها النووي، ويهدد كذلك التقارب مع السعودية ودول الخليج الذي أصبح اكثر أهمية لها من ذي قبل. وقد لا تريد المخاطرة بتكرار ما حدث لنظام الأسد وحزب الله مع الحوثيين. ولكنها في نفس الوقت غير متحمسة لسلام تخسر بسببه الورقة الحوثية، فأي اتفاق سلام قد يقيد الحوثيين ويخسرون بسببه السيطرة على السلطة. وهذا يفسر فشل التقارب السعودي الإيراني في إحداث اختراق حقيقي في مسار السلام، إذ اقتصر أثره على تهدئة مؤقتة لا أكثر.
 بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين فهم غير متحمسين أيضاً لأي عمل عسكري، لكن موقفهم من الحوثيين تغير، وباتو ينظرون إليهم كتهديد مستدام. هذا الموقف يتعزز بعلاقة الجماعة المضطربة مع الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة، بعد اعتقالها عشرات الموظفين بتهمة التجسس. ومثلما يقفون وراء تعطيل خارطة الطريق التي سبق التوصل إليها بين الرياض والجماعة، ستواصل واشنطن وحلفاؤها الغربيين مقاومة أي اتفاق سلام يعتبرونه مكافئة للجماعة.
 محصلة القول، لا الأطراف الإقليمية ولا الدولية متحمسة للحرب، لكن مقارباتها الراهنة في إدارة الملف اليمني تدفع نحوها. وما لم يحدث تبدل كبير في حساباتها فالحرب ستظل استحقاقا مؤجلاً وغير مستبعد. ويمكن أن تعاود نتيجة استمرار انسداد مسار السلام، أو عمل عسكري محدود يخرج عن السيطرة، أو بسبب حوادث عرضية. وغير ذلك فاليمن لم يعد ساحة نزاع مستقلة، وبات الصراع فيه متصلاً بملفات التوتر خارجه وبمصالح القوى الدولية وتنافساتها. ولذلك سيظل خطر اشتعال الحرب قائماً.