صنعاء 19C امطار خفيفة

لقاء عابر

لقاء عابر

الإهداء:

إلى زوجتي التي منحتني هذه الحكاية.

جلست تحت شجرةٍ تهتز أغصانها برفق، وتهمس بصوت مألوف، كأنها تبوح بسرٍ لا يُقال.
تراقب الشمس وهي ترتفع ببطء فوق سور الحديقة الممتد.
بالقرب منها، فراشتان ترفرفان، كأنهما تتعارفان للمرة الأولى، أو تسترجعان لقاءً قديمًا.
صبي لا يتجاوز الرابعة، يتبول مبتسمًا عند جذع شجرة، وأمه تراقبه بنفاد صبر، تهمس له أن يُسرع، كأنها تخشى نظرات المارة.
وفي الجوار، كان صوت سعال متقطع لعجوز يتسلل إلى المشهد.
بينما في الأفق، كانت بيوت جديدة ترتفع بهدوء، على طرازٍ أنيق غير معتاد، كأنها تحاول أن تفرض حضورها على ذاكرة المكان.
ظلت تراقب وجوه الآخرين، تحاول أن تقرأ ما فيها، كما لو أن كل وجه يحمل قصة حزينة.
وبالقرب منها، جلست طفلة صغيرة على وجهها حزن، وامرأة شابة. لا يوحي شكلها بأنها أمها؛ نحيلة، ترتدي شيئًا بسيطًا.
الطفلة كانت ترسم شيئًا على التراب بأصبعها، والمرأة تراقبها بصمت.
قالت لها بنبرة ودودة:
"هل أنتِ أختها؟"
ابتسمت وقالت:
"لا، أنا أمها."
بدت متفاجئة قليلًا، ثم قالت:
"ما شاء الله… لا تبدين كذلك."
ضحكت وقالت:
"أسمعها كثيرًا. فقد تزوجت صغيرة."
ثم سكتت لحظة، كأنها تقرر إن كانت ستفتح نافذة من حياتها، ثم قالت:
"أنا من محافظة أخرى… جئنا إلى هنا قبل سنوات، بسبب عمل والدي. كان كثير التنقل، ونحن ننتقل معه."
فردت وقد بدا عليها اهتمام حقيقي:
"نحن أيضًا لسنا من هنا. جئنا بسبب النزوح، الحرب غيّرت كل شيء… الوجوه شاحبة، منكسرة، الأطفال لم يعودوا أطفالًا. كبروا قبل أوانهم."
ردت بهدوء:
"نعم، إنها الحرب… لا خير فيها."
قالت وهي تنظر حولها:
"الحديقة مكتظة اليوم."
ابتسمت لها وردّت بهدوء:
"لا متنفس في المدينة سواها… الناس يأتون إليها كأنهم يبحثون عن شيء يتنفسون من خلاله، أو عن لحظة هدوء. خصوصًا في هذا الوضع الذي لا يُحتمل."
سألتها عن زوجها.
صمتت قليلًا، كأنها تستجمع شيئًا من زمن بعيد، ثم قالت بنبرة لا تحمل شكوى، بل بوحًا:
"تزوجت من رجل لا يعمل.
في البداية قالوا إنه يعمل، لكن ليست هذه المشكلة بحد ذاتها. فقد كان ذا طباع سيئة.
سكنا في بيت أهله، وكان البيت مزدحمًا، والمشاكل كثيرة.
كنت أمشي مسافات طويلة لأكمل دراستي، أحيانًا بلا مواصلات، أحيانًا بلا نوم، بلا راحة.
وفي يوم من الأيام، صرخت بكل ما فيّ: لم أعد أحتمل. طلبت الطلاق، لكنه رفض.
حاولت مرارًا… وفي النهاية، انفصلنا. وارتحت.
في بعض الأحيان، يكون الانفصال نوعًا من النجاة."
قالت ذلك بكلمات تنساب منها بهدوء، كأنها اعتادت أن تهمس بها لنفسها كلما وقفت أمام مرآة.
نظرت إليها وقالت:
"لا بد أن الأمر كان صعبًا."
قالت:
"نعم، عدت إلى بيت والدي منهكة، لكنني كنت أتمسك بشيء بداخلي… شيء يقول لي إنني بخير، وسأتجاوز ما أنا فيه.
استقبلني والداي بصدرٍ رحب، لم يسألاني كثيرًا، احتضنتهما وبكيت حتى شعرت بشيءٍ بداخلي يلتئم.
في تلك اللحظة، أدركت أنني عدت حقًا... لا إلى البيت فقط، بل إلى نفسي.
كانا يوقظانني كل صباح، يحضّران لي الفطور، ويتركان لي كلمات صغيرة على الطاولة، كلمات تشبه الدعاء، وتشبه الأمل.
ربما يراها البعض تفاصيل بسيطة، لكنها بالنسبة لي كانت تلمس أعماقي،
كأنها لمسات حب تُرمم ما تهدّم داخلي.
وبتشجيعهما، التحقت بكلية الطب. واليوم… أنا طبيبة مطلقة."
ثم ضحكت ضحكة قصيرة، فيها نبرة انتصار هادئ، كأنها تقول:
لم يكن الطريق سهلًا، لكنه كان ممكنًا… لأن أحدًا آمن بي، بعد أن آمنت بنفسي.
ضحكت معها، وقالت:
"جميل أن تنتهي الحكاية بهذا الشكل."
قالت:
"لم تنتهِ… لكنها بدأت. ألا تنظرين إلى ابنتي؟"
لم يكن في صوتها مرارة، بل شيء يشبه التعب القديم.
كانت تتكلم ببطء، كأنها تمشي على أطراف الكلمات، تخشى أن توقظ شيئًا نائمًا في ذاكرتها.
الطفلة لا تزال ترسم على التراب، خطوطًا متداخلة، لوجه أمها.
والأغصان تواصل همسها،
والريح تمرّ بخفة،
كأنها لا تريد أن تزعج أحدًا.

الكلمات الدلالية