صنعاء 19C امطار خفيفة

الجوع كافر... لكن الكافرين الحقيقيين في القصور

يقولون: الجوع كافر.

لكن يبدو أن الكفر لا يسكن البطون الخاوية، بل النفوس المتخمة بالفساد. فالجائع الحقيقي لا يملك إلا صحنه الفارغ وكرامته، أما أولئك الذين أكلوا الوطن لقمةً لقمة، فهم الجوعى الذين لا يشبعون أبدًا.

في علم النفس، يسمّى هذا النوع من الجوع “الجوع المزمن للسلطة والنهب”، حالة لا علاج لها إلا بالرحيل إلى مصحّات الشرف، وهي مصحّات أغلقت منذ أول اجتماع وزاري في هذه البلاد.
ترى المسؤول يتحدث عن التقشف، وفي الوقت نفسه تتقشف خزينة الدولة من كثر ما يشفطها وأصحابه "شفطًا" باسم الوطنية.
يعيش الناس على العدس، بينما يعيش هو على العائدات والعقود والعطور الباريسية التي يرشّها لتمويه رائحة السرقة.

الجوع الاجتماعي

تقول الأمهات لأطفالهن: اصبروا، الفرج قريب.
لكنّ "الفرج" تأخر، لأن الطريق إليه تمرّ عبر مكاتب مغلقة بتواقيع الشبعانين.
الشعب صار يعيش في سباق مع الأسعار، بينما الساسة يعيشون سباقًا على العمارات في الخارج.
كلّ طرف جائع:
الفقير إلى كسرة خبز،
والمسؤول إلى صفقة جديدة.
الفرق أن الأول يأكل ليعيش، والثاني يعيش ليأكل... الوطن!

الجوع الثقافي

أما ثقافيًا، فقد تحوّل الجوع إلى فنّ.
فنّ إقناع الجائعين بأنهم سعداء، وأنّ من يسرقهم "قائد ملهم".
المسلسلات تطبّل، والإعلام يبرّر، والمثقفون الجدد يعزفون على وتر "الاستقرار"، وكأن الجوع استقرار والكرامة ترف.
صار الفساد فناً وطنياً، والغش حيلة مشروعة، والصمت حكمة سياسية!

الجوع الاقتصادي

في الاقتصاد، يسمونه "عجز الموازنة".
لكن الحقيقة أنه عجز الضمير.
فالموارد موجودة، لكنها تُهرّب إلى بنوك سويسرا على أجنحة القرارات.
الناس تقف في الطوابير على الرغيف، بينما المسؤولون يصطفّون في مطارات العالم لشراء العقارات.
نظام يطالب المواطن بشدّ الحزام، بينما هو يشتري أحزمة "غوتشي" على حساب خزينة الدولة!

الجوع السياسي

سياسيًا، تمّت خصخصة الجوع.
صار لكل حزبٍ جائع حصته من الفتات، ولكل زعيم حقٌّ حصري في استيراد الجوع من الشعب وتصدير الوعود.
تجدهم يتقاتلون على الكراسي لا حبًّا في الوطن، بل لأن الكرسي هو "بوفيه مفتوح" بلا فواتير.
والمفارقة أن من تسببوا بالجوع يدّعون أنهم يحاربونه، تمامًا كما يدّعي اللصّ أنه يلاحق السارق!

الخاتمة

الجوع كافر... نعم.
لكن الكافرين ليسوا من يأكلون القليل، بل من أكلوا كل شيء وتركوا الوطن عظماً مكشوفًا.
إن الجوع في بلادنا لم يعد جوع خبز، بل جوع ضمير، جوع عدالة، جوع كرامة.
وما لم تُشبع هذه الجوعات أولاً، فحتى لو امتلأت الموائد... سيبقى الوطن على معدةٍ فارغة من الشرف.

الكلمات الدلالية