نصف عمر للوحده و نصفه للانفصال!
مولعٌ أنا بتتبع أخبار العالم، لكن ثمّة عالمٌ صغير في ركنٍ قصيٍّ منه، ظلّ يشدّني بإلحاح منذ تشبّعت مبكرًا بأفكار ميشيل عفلق، حيث كانت القومية تُقدَّم بوصفها خلاصًا، وكانت الوحدة تُرسم كقدرٍ لا يُراجع، ولا يُسأل عن شروطه أو كلفته.
هناك، اندلع الصراع لطرد الإنجليز، فهزم ثوار ببنادق بالية إمبراطوريةً قيل إنها لا تغيب عنها الشمس. انتصروا، نعم، لكنهم لم ينتصروا على ذواتهم. فما إن خرج المستعمر حتى بدأ المستبد المحلي في التشكّل، وما إن رُفع علم الدولة حتى سُحبت البنادق نحو الصدور ذاتها. أكل الثوار بعضهم بعضًا، وسقطت دولة لم تُبنَ بإرادة شعبية ناضجة، بل صُنعت على مقاس صراع دولي، وبرعاية الاتحاد السوفيتي، ثم ذابت لاحقًا في دولة واحدة، قُدّمت باعتبارها ذروة الحلم القومي ونهايته السعيدة.
لكن الأحلام الكبرى، حين تُفرض من أعلى، ولا تُحمى بالعدل ولا تُدار بالمواطنة، تتحول إلى أوهام خطرة. مرّ أكثر من ربع قرن، فإذا بأحفاد أولئك الثوار يعودون إلى الشارع، لا ليحتفلوا بالوحدة، بل ليتمرّدوا عليها، مطالبين باستعادة دولتهم الذائبة، بعد أن اكتشفوا أن الوحدة التي لا توزّع السلطة والثروة بعدالة، ليست وحدة، بل ضمٌّ مقنّع.
في أحد الاعتصامات، سألتُ شيخًا تجاوزته السنوات وهو يقف بين المحتجين:
- ماذا تفعل هنا يا حاج؟
نظر إليّ طويلًا وقال بمرارة لا تخلو من الحكمة:
- قضيت نصف عمري أحلم بالوحدة، والآن أقضي النصف الآخر أطالب بالانفصال.
لم تكن إجابته نزوة عاطفية، بل لائحة اتهام كاملة لتجربة سياسية فشلت في تحويل الشعار إلى دولة، والحلم إلى عقد اجتماعي. إنها شهادة جيلٍ خُدع مرتين: مرة باسم التحرر، ومرة باسم الوحدة. وبين الخديعتين، ضاعت الدولة، وتآكل المعنى، وبقي السؤال مفتوحًا: هل المشكلة في الفكرة، أم في من احتكروها، وصادروها، ثم حكموا باسمها ضد الناس؟