صنعاء 19C امطار خفيفة

الهدنة التي تقتل بصمت حرب الجيل السادس

في الحروب الحديثة وسياسة الجيل السادس للحرب، لم تعد الهدنة استراحة إنسانية كما تُقدَّم في البيانات الدبلوماسية، بل أصبحت صيغة جديدة لإدارة الحرب من دون ضجيج السلاح والمجازر الوحشية، بمعنى أن الهدنة اليوم هي بلا سلام، ومن يتحدث عن السلام هي تجارة في زمن الهدنة لا للحلول الجذرية للسلام.

الهدنة تمثل واقعًا بلا دولة، وحياة تنتقل من فرحة بوقف إطلاق النار إلى انتظار طويل، ففي اليمن لم تنتهِ الهدنة ولم تنتهِ الحرب، بل نقلتها من الجبهات إلى البيوت وإلى دول العبور والشتات، وجعلت الناس يعيشون حياة مؤقتة ينسحب منها الأمان كما ينسحب الراتب والكهرباء والماء، وفي غزة تم الاحتفاء بالهدنة والسلام وإعادة إعمار، وبما أن موقعها استراتيجي من حيث رؤية أمريكا وإسرائيل لمشاريع تنمية، ستُباع الهدنة بوصفها "نافذة لإعادة الإعمار"، بينما هي في الحقيقة ستكون نافذة تُطل على حصار مستمر، وعالم يتفاوض على أنقاض البيوت لا على حقوق أهلها مستقبلًا، فنحن والفلسطينيون يتم طمسنا من أجل نخب سواء أكانوا بوقًا للحرب أو بوقًا للمدنية والإعمار والسلام لا للتعويض.
في اليمن كانت الهدنة إعلان توقف القصف، لكنها لم تكن إعلان عودة الدولة، كون اليمن تملك مواقع استراتيجية مهمة: ميناء عدن، جزر تفوق المائة، ثروات معدنية وسمكية وذهب وغيرها. لذلك أتت الهدنة لتبقي المؤسسات فارغة، والرواتب شبه مجمدة، والخدمات منهارة في بعض المحافظات مثل عدن وتعز وتهامة وغيرها، ناهيك عن صنعاء التي في عالم موازٍ للدولة يتم فيها بطش الضعيف واعتقال بتلفيق التهم لمن يطالب بدولة وحقوق، لكننا نرى أن السلطة موزعة بين أطراف تتقاسم النفوذ، بينما يتقاسم المواطنون الخيبة. هدنة لا تمنح الحياة لشعب ينتظر أمل السلام، فقط بل يؤجل الموت، وحين يطلب الناس حقوقهم يُقال لهم الحرب توقفت، فاشكروا الهدوء، لكن الهدوء بلا دولة يشبه الصمت الذي يسبق السقوط، لا السكينة التي تسبق السلام.
ربما في غزة اليوم، يعاد المشهد نفسه بطريقة أقل قسوة، ونتمنى غير ذلك هدنة تُفتح فيها الممرات الإنسانية، وتُغلق فيها كل أبواب السيادة، هدنة تضمن مرور المساعدات وتأتي الجرافات لإزالة الأنقاض، لكنها لا تضمن بقاء البيوت أو إعمارها، هدنة تتيح أن يبقى الاحتلال بلا صوت، والحصار بلا جريمة معلنة، والناس بلا حق في تقرير مصيرهم، فالهدنة هناك ليست وقف حرب، وإنما بين الحرب والسلام، وقد تصل الأمور إلى تعليق المشهد كي تستمر الخرائط والتفاهمات في غرف مغلقة لا يعرف عنها أهل الأرض شيئًا سوى كيف ستتم إدارة القضايا، وكيف ستستفيد نخب الاقتصاد من الدول العظمى من منطقة غزة.
بين هدنة اليمن وغزة، وأتصور أن غزة ستكون أفضل حالًا منا، يكون المتضرر الأول هو الإنسان الذي يعيش خارج طاولة القرار، والذي لا ينتمي لطرف إقليمي أو متطرف ديني أو مناطقي.
ومن يقف في طوابير الماء في غزة، هو من يبحث عن الماء في تعز، وعن راتب في صنعاء، لكننا مازلنا نبحث عن الكهرباء في عدن، وعن الأمن في تعز، وعن الأمان في مناطق البطش الخاضعة للحوثي.
عن التنمية والإغاثة والسلام والمؤتمرات التي تضخها الدول المانحة، وتذهب إلى نخب المنظمات ودول الإقليم، ليؤمنوا مستقبلهم عن بعض المحافظات للنخب واعتماد أفردها لأية دولة إقليمية من دول الجوار وإيران ترضى عنه ليجد مخصصًا بحسب صفته.
حتى من خرجوا من الحرب نحو المنافي، وخرجوا من معادلة الحرب، لم ينجوا من شكل آخر من الهدنة، هدنة الغربة، كما نحن نساء الشتات نعيش غصبًا عن الكل نحمل أوطاننا على ظهور الذاكرة، ونعيش بقدر قليل من الحياة بلا أمان وكثير من الصبر، ودائمًا نفاجأ بأن شروط الحياة التي لا نصنعها نحن، بل يصنعها رواد الدول التي نحن فيها، والهدنة والمنظمات التي تستفيد من جراحنا كل يوم في المنافي.
لن ترضى عنا ظروف الهدنة مادامت دول إقليمية تتحكم في مصائرنا، والتأشيرات تُمنح بميزان السياسة ومحسوبية الأطراف والشللية كيفما كانت حزبية أو قبلية أو إقليمية، لا بميزان الحاجة والفرص من أجل سلام حقيقي، لا تأتي الفرص إلا بمعية الأحزاب الكبرى أو لمن استطاع إليها سبيلًا، وسط طوابير البشر الهاربين من وطن لم يعد يشبههم، فأين السلام الذي كلما أعلن عنه الحوثيون وعن خارطة طريق تجد أن هناك صفقة انتهازية قادمة أو حربًا أو حربًا باردة تقتل الجمهور.
فالهدنة لم تعد وقفًا للنار، بل شكل من أشكال إعادة توزيع الألم، هدنة تملأ ملفات المفاوضات، لكنها تفرغ حياة الناس. هدنة تعطي المتحاربين استراحة، وتنعشهم هم وأتباعهم، لكنها لا تعطي الشعب استحقاقه. هدنة ترضي المجتمع الدولي، لكنه لا يعيش داخلها. هدنة تطيل عمر الأزمة، وتقصّر عمر الإنسان الذي يبحث وإن طال به العمر وحيدًا، عن الأمان. الهدنة التي لا تعيد الدولة ليست هدنة، بل طريقة لإطالة الصراع. والهدنة التي لا تضمن الحقوق العامة ليست جسرًا إلى السلام، بل طريق أطول نحو موت بطيء. الهدنة التي تُجمّد الحرب ولا تُحرّر الناس، ليست شجاعة سياسية، بل هندسة جديدة للفوضى الباردة.
من اليمن إلى غزة، ومن تحت القصف إلى مخيمات النزوح، ومن بقايا البيوت إلى أبواب السفارات، المعادلة واحدة، الحرب لا تنتهي حين تصمت البنادق، بل حين تُعاد الحقوق، ويعاد الإعمار، وتفعل مؤسسات الدولة، منها مجلس صوت الشعب الصامت إلى اليوم، وحتى ذلك الحين، ستظل الهدنة قُنبلة موقوتة بفتيل دولي طويل، وشعب ينتظر حياة لا تمنحها لجان التفاوض، ولا تُنقذها صناديق الإغاثة.
ليست هذه هدنة من أجل الإنسان، بل هدنة لإدارة الإنسان، فسلامٌ يولد في زمن تُقاس فيه قيمة البشر بمواقعهم على خارطة المصالح، لا يمكن أن يكون سلامًا حقيقيًا. هنالك أكثر من أربعين مليون نسمة لا يُناقش حقّهم في الحياة بقدر ما يُناقش استحقاقهم للبقاء، وكأن وجودهم مجرد رقم يحتاج إلى إذن بالعبور أو لاستحقاقه أن يعيش الحياة.

الكلمات الدلالية