صنعاء 19C امطار خفيفة

عندما تصبح اللغة عبئاً على نفسها

إذا أردنا الصراحة فاللغة العربية لا تعاني فقط من سوء مستخدميها، بل من عيوب داخلية تراكمت حتى صارت جزءاً من أزمتها. لغة مثقلة بما يكفي لتجعل الدفاع عنها أقرب إلى التبرير لا إلى النقاش العقلاني. ليست لغة ضعيفة لكنها لغة مُرهِقة. ترهق نفسها أولاً قبل أن ترهق متكلميها. كأنها قررت منذ قرون أن تكون امتحاناً دائماً لا وسيلة تواصل. قواعدها لا تقدم بوصفها أدوات، بل بوصفها حواجز كرامة. من يخطئ يُدان ومن يتحدث ببساطة يُتَّهم بالإخلال بالمقام.

لغة تدار بمنطق الامتحان لا بمنطق التواصل. قواعد كثيرة واستثناءات أكثر، وخلافات نحوية لا تنتهي حول جملة يمكن أن تُفهم دون كل هذا العناء. تحولت القواعد من وسيلة لضبط المعنى إلى غاية بحد ذاتها، وصار المتكلم يخشى الخطأ أكثر مما يحرص على الفكرة. لغة ترهب مستخدميها تفقد قدرتها على الحياة اليومية.
لغة نكتب بها ما لا نقوله ونقول ما لا نكتبه. الفصحى تعيش في الكتب والخطب، والعامية تعيش في الحياة، وبينهما جدار سميك من النفاق اللغوي. الطفل العربي يتعلم لغة في البيت وأخرى في المدرسة، ثم نلومه إن ارتبك.
العربية تملك ثروة لفظية هائلة، لكنها بطيئة في توليد المصطلحات الحديثة، وأبطأ في توحيدها. المصطلح الواحد له خمس ترجمات، وكل مؤسسة تختار ما يعجبها، فيتحول العلم إلى فوضى لغوية. اللغة التي لا تنتج مفاهيمها بسرعة العصر، تجبر مستخدميها على الهجرة إلى لغات أخرى أكثر عملية.
البلاغة عند العربية ليست جمالاً بل عقوبة. فكرة واضحة تُغلف بثلاث استعارات احتياطاً، وجملة قصيرة تُسحب إلى فقرة طويلة. لغة تميل إلى الزخرفة والإطناب والاستعراض البياني. هذا جميل في الشعر، مرهق في الإدارة، ومكلف في العلم. في زمن السرعة والدقة تبدو العربية الرسمية كمن يشرح فكرة بسيطة بخطبة كاملة. الاقتصاد اللغوي ليس من نقاط قوتها، وهذا عيب حقيقي في عصر لا ينتظر.
ثم هناك القداسة تلك المظلة الثقيلة التي تحمي اللغة من التطوير أكثر مما تحميها من الاندثار. العربية ليست مجرد أداة، بل رمز، والرموز لا تُناقَش بل تُبجَّل. أي محاولة لتخفيف الحمل تُفهم كخيانة، وأي اقتراح للتحديث يُقرأ كعدوان. وهكذا تُحبس اللغة داخل قفص الاحترام الزائد، لا تُمس إلا بالمديح ولا تُنتقد إلا همساً، واللغات التي لا تُنتقد لا تتطور.
أما في العصر الرقمي فتبدو العربية كضيف محترم لكنه غير عملي. حاضرة في الواجهات وغائبة في العمق، ما زالت ثقيلة في البرمجيات، ضعيفة في المحتوى العلمي، ومحدودة في الإنتاج التقني. ليست المشكلة تقنية فقط بل لغوية أيضاً. طول الجملة وتعقيد التركيب وتعدد الصيغ يجعلها أقل ملاءمة للسرعة والاختصار، وهما روح العصر.
اللغة العربية ليست فاشلة لكنها ليست بريئة. جزء من أزمتها ذاتي لا خارجي.
والاعتراف بعيوبها لا ينتقص منها بل ينقذها من خطاب عاطفي طويل لم يعد يقنع أحداً.
في اليوم العالمي للغة العربية، المشكلة ليست أننا لا نحبها بما يكفي، بل أننا لا نجرؤ على نقدها بصدق.

الكلمات الدلالية