حتمية التحول إلى الدولة السياسية
بالرغم من أن الروايات ذات الصلة بالحكم لها طابع قدري وجبري، وهي في الأساس لا أصل لها، كأحاديث الإمامة في قريش -أمويين أو عباسيين- أو في العلويين من البطنين أو في نسل الحسين (ع) كما عند الجعفرية والإسماعيلية، وكلٌّ يستند إلى مرويات من الأحاديث السياسية التي تأمر بطاعة حاكم الجور وإن زنى وإن سرق وإن جلد للرعية ظهورها..
كما نجد أن سردية ومضامين هذه الأحاديث عن التاريخ والحكم لا تمت للدين الإسلامي القرآني بصلة؛ ولو جارينا إسلام الحديث فإن مؤداها في الأخير إنما هو إقرار ضمناً -لا تصريحاً- بأن انفصال الديني عن السياسي ضرورة حتمية، أي أنها تناقض الملك (الدولة السياسية) مع الخلافة (الدولة الدينية). فالرواة قد أوردوا نصوصاً تؤكد فترة الخلافة وتراجعها لصالح دولة الملك العضوض، أو النص بأن الخلافة هذه القرن ثم الذي يليه ثم الذي يليه، ثم تبزغ -بمشيئة الله- دولة الملك، أو الدولة السياسية.
وعدم وجود دستور أو نظام سياسي يوضح كيفية اعتلاء الحاكم سدة الحكم تضاف إلى ذلك حقيقة أخرى، وهي غياب مفهوم الدولة بدلالته الدستورية والسياسية، وكإطار للحكم في القرآن الكريم تماماً. وكل ما ورد في القرآن الكريم ليس سوى حضّ على قيم ذات صلة بالحكم؛ مثل: العدل، والمساواة، والقسطاس، والشورى، وغيرها من المفاهيم. لكن الحض عليها في هذا السياق ليس باعتبارها آليات أو شروطاً سياسية أو قانونية ملزمة لنوع معين من الحكم، وإنما باعتبارها قيماً إنسانية عليا يستحسن التمسك بها، وأن من يفعل ذلك سيثاب عليه؛ مالم فواجب الرعية طاعة الحاكم وإن زنى أو سرق أو جلد ظهرك، فإذا كان الحاكم عادلاً فله أجر عدله وللرعية أجر الطاعة، وإن كان ظالماً فعليه وزر ظلمه وللرعية أجر الصبر.
وهذا المعنى يتسق مع الأحاديث السياسية التي تقر بحتمية التحول من الدولة الدينية إلى الدولة السياسية، كما أنها تحض الناس على الطاعة إلا في حال واحدة، وهي معصية الله؛ لأنه "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". أي أن انحراف الحكم في أمور الدنيا لا يجيز العصيان، أما الانحراف في أمور الدين فلا تجوز معه الطاعة. وفي هذا ما يمكن اعتباره تمييزاً واضحاً، أو فصلاً لمتطلبات الديني وضروراته عن متطلبات وضرورات السياسي الدنيوي. ومن المؤكد بأن غياب نظرية في الحكم في الإسلام هو الذي تسبب في تحول نظام الخلافة إلى ملك عضوض، وليس الأمر قدراً محتماً ومشيئة سبقت، بل لغياب مفهوم الدولة في القرآن (وهو النص المؤسس والمصدر الأول للتشريع). وهكذا نجد أنها تتضافر معه دلالات الأحاديث السياسية، للتأكيد أن الطبيعة السياسية أو الدنيوية متروكة للناس لأنهم أدرى بشؤون دنياهم (خلاف الأمور الدينية)، فالمسألة تستوجب وجود نص.
في الوقت نفسه، نجد أن التجربة السياسية العملية في التاريخ الإسلامي، منذ السقيفة حتى الآن، تتضافر بدورها مع الأحاديث النبوية ومع القرآن في تأكيد أن مسألة الدولة والحكم في الإسلام هي في أصلها مسألة سياسية دنيوية، وليست مسألة دينية؛ وبالتالي خضعت في نشأتها وتحولاتها لنواميس الدنيا والمجتمع الإنساني قبل خضوعها لأي شيء آخر. فالابتدائي أن الله لم يعطِ إنساناً سلطة -لا دينية ولا سياسية- على أخيه الإنسان مهما بلغ كعبه في الدين؛ قال عز من قائل لرسوله الكريم: (لست عليهم بمسيطر).
نقول ذلك رغم وجود أحاديث أثبت التاريخ صحة متنها مثل حديث "لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة أول نقضها الحكم"، ما يؤكد أن السياسة هي مفسدة للدين، وأن السياسة و"ساس ويسوس" ما دخلت في شيء إلا وأفسدته، حسب تعبير الشيخ الأستاذ الإمام محمد عبده -طيب الله ثراه في الجنة-.
السؤال هنا: ألا تنطوي هذه الملاحظات أولاً على أن النصوص الإسلامية التأسيسية تقر في نهاية المطاف بانفصال الديني عن السياسي؟ وثانياً أن هذا الانفصال، تبعاً لذلك، كان ولا يزال سمة بارزة من سمات التاريخ السياسي الإسلامي؟ طبعاً لا بد من استثناء مرحلة الخلافة الراشدة عن هذا التعميم؛ وهي مرحلة فرضتها الظروف السياسية من بيعة "فلتة وقى الله الناس شرها" -حسب وصف عمر لخلافة أبي بكر رضي الله عنهما- إلى وصية من السابق للاحق كما في تولي عمر، إلى ناخب واحد هو عبدالرحمن بن عوف وستة مرشحين كما في خلافة عثمان، إلى تزكية أغلب المهاجرين والأنصار كما في خلافة الإمام علي. وهذه الفترة لا يتجاوز عمرها الـ30 سنة في التاريخ الإسلامي، وما بعدها فملك عضوض؛ وبالتالي لا يمكن أن تكون مرجعاً أو أساساً للحكم على طبيعة ومسار هذا التاريخ.
والخلاصة أنه إذا كان مكمن قوة الإسلام في تركه تشريع تنظيم حياة الناس للناس حسب ظروف كل منطقة؛ قال سبحانه: "لكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجاً"، فقال: "منكم" ولم يقل "لكم"؛ إلا أن مكمن ضعف المسلمين هو عجز المسلمون عن اجتراح نظام حكم يوضح شروط الترشيح للحكم وكيفية اعتلاء الحاكم وفترة حكمه ومتى يجب عزله؛ أي لا يوجد نظرية للحكم ولا سياسة ولا دستور، في حين نجد مئات الكتب عن إمامة الصلاة، وما قاله صاحب كتاب "الأحكام السلطانية" هو تبرير أكثر منه تقرير أو تنظير.