العقل الباطن شَغَّال
هَاجرَ محمد عبد الله «التنجنيقي»؛ نِسْبةً إلى «تنجنيقا» التي صارت بعد ذلك تنزانيا الدولة المعروفة بشرق إفريقيا.
سَافرَ ذلك المواطن اليمني أيام شَبابهِ إلى تلك البلدة؛ بَحثًا عن لُقمَة العيش، وبعد قيام ثورة الـ 26 من سبتمبر عَادَ مِنْ فَورِهِ إلى وطنه، عسى أن يحظى بفرصة للعيش يهنأ بها بعد سنوات من الغربة الطويلة قَضَّاهَا في المهجر، لكن الأبواب كانت كلها مُوصَدَة بوجهه.
لَمْ يَجِدْ سَبِيلاً سوى بيع ابنة العنب؛ ذلك المشروب الرُّوحِي الذي يأوي إلى ظِلِّهِ المتعبون الذين أصلتهم الحياة بجحيمها الذي لا يُطَاق؛ حتى يستريحوا وينفصلوا عن الواقع المرير ويهنؤوا بشيء من اللذة والنشوة.
ومع التأهيل النفسي والدور الاجتماعي الذي كان يقوم به هذا الإنسان المكافح، إلا أنه لم يسلم من بعض المتطفلين والثقلاء مِنْ «وُعَّاظ السلاطين»؛ بحسب توصيف خالد الذكر عالم الاجتماع الكبير الدكتور علي الوردي.
هذا فَضْلاً عن كبسات الأمن التي كانت تزوره كالحمى التي زارت المتنبي دون حياء أو خجل. فيمكث أيامًا في السجن، ثُمَّ يَتِمَّ إطلاقه بعد دفع الإتاوة لكبار الضباط- «حُرَّاس الفضيلة»، وَحُمَاة الوطن.
لازال صديقي الأحمق يتذكر زيارته له؛ عسى الله يكتب هدايته على يديه؛ فيفوز فَوزًا عظيمًا بحسب ما كان يقدر ويرسم له؛ وهو الذي لا يحسن قراءة فاتحة الكتاب، إلا أنه -والحقّ يُقَال- يحفظ حَديثًا وَاحدًا سمعه من أحد أشرطة الكاسيت التي كانت تأتي من المملكة السعودية.
وبدأ ذلك صديقي السمج بتشغيل الأسطوانة المشروخة، لكنه فوجئ بنظرة غريبة من ذلك الشخص لم تغادر مخيلته- نظرة حانية مفعمة بالشفقة، وتفيض بالرقة على شخص في سن أولاده يقوم بإلقاء محاضرة على رأسه الملي بالحكمة والخبرة.
قال له حينها: يا بني إنك لازلت شَابًا غِرًّا صَغيرًا، لم تعرف الحياة، ولم تجرب قسوتها ومرارتها ومشاقها التي لا تنتهي.
سوف يأتي عليك اليوم يا بني وتذكرني، ثُمَّ تبحث عني فلا تجدني. ستعرف حينها أنك ظلمتني بحكمك المسبق علي، وسيزفر صدرك بتنهيدة طويلة، وتقرأ الفاتحة على روحي الطاهرة.
يا بني إنَّ ما أبيعه للناس هي روحي التي بها يتنفسون ويعيشون ويحيون ويتخففون من آلامهم فيسعدون ويهنؤون، وبدل أن يحسنوا مجازاتي على صنيعي هذا، لا أجد منهم سوى الملام والاحتقار.
عَادَ صديقي الأحمق، وهو ينفض يديه على «حُمْرِ النِّعَم» التي راحت عليه، بعد أن فَشِلَ في بيع أسطوانته المُمِلَّة التي لم تلق رواجها في سُوق ذلك الرجل.
ومرت السنوات وصدقت فراسة ذلك الحكيم، وصحت نبوءته. وكأنَّمَا كان يرى الغيب بعيني كاهن حاذق متمرس، فصديقي الآن حين يتذكر حديثه معه والشواهد التي تشهد له، يطيل تَرحُمَّهُ عليه، ويكثر من تَأسُّفِهِ أنه لم يَروِ ولم يأخذ عنه سوى هذا الحديث الذي يملأ عليه نفسه أسىً وَحَسرةً وَنَدامة. ولو أنَّهُ طَلبَ منه أحاديثه التي يرويها عن ابنة الكرم، لَمَا بَخِلَ بها عنه، لكن كما يقال: لِكُلِّ شربة شَاربها، ولكل لقمة آكلها، وبحسب الاستعداد يكون الاستمداد.
ومع خلاف صديقي هذا تلك الأيام مع ابن عمه الذي كان يِجِلُّ «التنجنيقي» ويحترمه ويثني عليه الثناء الذي لا مزيد عليه؛ فهو حين كانت تضيق به الدنيا، يقصده في منزله؛ فيجود عليه بنصف أو ربع قارورة على ذمة الراتب في آخر الشهر.
لا يزال صديقي يذكر جلوسه أمام باب منزلهم، هو وابن عمه وصديق ثالث قدم من القرية لزيارتهم. وكان الاثنان الضالان-بحسب توصيف صديقي لهما تلك الأيام- يفيضيان في ذكره ويطريانه؛ إذ كان كلاهما من زبائنه ومحبيه، ومرتادي حانه؛ فَمرَّ أمامهم بسيارته «التاكسي» المكسرة؛ فَصاحَ ابن عمه دون شعور، في لحظة نشوة روحانية هَاتفًا باسمه: محمد بن عبد الله التنجنيقي!
فرد عليه صاحبه: اللهم صل وسلم عليه!
قصة أخرى:
كان ذلك الواعظ ذي اللحية الحمراء طويلة التِّيلَة يصيح ويصرخ من أعلى المنبر، صُراخًا يكاد يَشقّ صَدره، ويُقَطِّع حِبَالهُ الصَّوتيِّة؛ أسَفًا عن الفضيلة التي اغتيلت، والرذيلة التي استشرت في أوساط النساء، وعن مفاتنهن وفتنهنَّ التي تسير معهن حَيثُمَا ذَهبنَ وَسِرن.
ثُمَّ - وهو في غاية غيظه- بدأ بالحديث عن امرأة، وكأنها كان يعرفها عن قرب، فقال: إنَّ تلك السافرة الفاجرة تخرج من بيتها في كامل زينتها، تَتَخلَّع في مشيتها كما يَتَخَلَّع طائر القطا عند وروده لغدير الماء، وهي تنفح بعطرها الفرنسي «كزنوفا»، وتختال بالبالطو المزركش، وكعبها العالي.
هل تعرفون أين تذهب أيُّهَا السَّادَة الكِرام؟!
والمصلون مطرقون متلهفون أين عساها تذهب؟!
وبعد هُنَيهَةٍ من التوقف للتشويق والدراما من جانب الخطيب قال: إنها تذهب للقاء الحبيب!
فضج المسجد بأجمعهم: اللهم صلِّ وسلم عليه!