هامترامك نموذجًا:
كيف يقود الخوف على الهوية المهاجر العربي إلى تأييد اليمين المتطرف
عشت قرابة عشرة أشهر في مدينة هامترامك، الواقعة وسط أحياء مدينة ديترويت الكبرى، وخلال تلك الفترة رأيت فصلًا حيًا من فصول معضلة الهجرة.
لم تكن تلك البقعة الجغرافية الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها ثلاثة كيلومترات، مجرد مدينة أمريكية، بل بدت لي كأنها قرية يمنية ريفية من زمن ما قبل الجمهورية.
حتى شوارعها لا تشبه أمريكا في شيء. يرتدي معظم الرجال الملابس الشعبية، والنساء منقبات بالكامل بالسواد، فيما ترفع المحال لافتات عربية أكثر من الإنجليزية. في الشوارع أيضًا تشعر أنك في اليمن؛ فهناك سيارات تحمل لوحات أمامية يمنية، وتنبعث من سماعاتها الزوامل الحوثية والأغاني الشعبية.

وجدت مجتمعًا يمنيًا أكثر تشددًا مما هو عليه المجتمع اليمني داخل اليمن نفسه اليوم. يعيش هذا المجتمع على نمط حياة الأرياف اليمنية بعاداته وطرائق عيشه، دون أي مظاهر اندماج مع بقية المجموعات. كما أنه عاجز عن بناء جسور ثقة مع غيره، مكرسًا بذلك الصورة التي ينقلها الإعلام الأمريكي عن هامترامك بوصفها بيئة متطرفة.
تحولت العادات القديمة هناك إلى رقابة اجتماعية صارمة؛ إذ يُحتكم إلى الوجهاء (المشايخ) لحل الخلافات الشخصية والتجارية، وتُنَفَّذ أحكامهم بطقوس قبلية مثل "الهجر" (المصالحة بالذبائح). ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل تُعقد اجتماعات لتأكيد الالتزام بالتقاليد، مثل الاتفاق على منع دخول العريس قاعة العرس مع زوجته، باعتبارها ظاهرة دخيلة على القيم المجتمعية.
كما تُفرض العزلة على النساء، فترى الطفلات الصغيرات يرتدين النقاب في عمر الثامنة أو أقل، في مشهد يصعب تخيله في بلد يُعلي من شأن الحريات الفردية.
أتذكر أنني حضرت مراسيم تنصيب العمدة اليمني أمير غالب، الذي فاز بأصوات اليمنيين في هامترامك، وكان الحفل كاشفًا للفجوة الثقافية العميقة؛ إذ غابت المرأة اليمنية تمامًا، واقتصر الحضور على الرجال. وفي الوقت الذي تتطلب فيه الأعراف الأمريكية ظهور المرشح الفائز إلى جانب زوجته، غابت زوجة العمدة مما أثار استغراب الصحافة الأمريكية.
ورغم أن منصب العمدة في هامترامك رمزي وغير تنفيذي، فقد تحول فوز غالب إلى انتصار رمزي كبير داخل الجالية وفي الداخل اليمني، وكان البعض يطلق عليه لقب محافظ هامترامك وكأنه انتُخب حاكمًا لولاية، لا عمدةً لحي صغير داخل ديترويت.
في الواقع لا يُعد منصب العمدة في مدن صغيرة مشابهة لهامترامك منصبًا سياسيًا ذا صلاحيات تنفيذية، بل هو أقرب إلى خدمة تطوعية رمزية. وفي مدن صغيرة في أمريكا غالبًا ما ينتخب العمدة بالتزكية خلال اجتماع لوجهاء الحي في أحد المطاعم، وصلاحياته محدودة، كما أنه لا يُعتبر موظفًا حكوميًا ولا يتقاضى راتبًا بل يحصل على بضعة مئات من الدولارات مقابل حضور الاجتماعات الدورية. أما الإدارة الفعلية للمدينة وميزانيتها فتتم بواسطة مدير المدينة (City Manager)، وهو موظف يُعيَّن بناءً على مؤهلات وخبرة مهنية محددة.
الكثير من المهاجرين العرب، بعد أن تركوا بلدانهم بسبب الحروب والفقر والفساد وانعدام الأمان، وصلوا إلى الغرب بحثًا عن حياة مستقرة. لكن المفارقة أنهم سعوا إلى نقل ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم كما هي -بكل تناقضاتها وسلبياتها- إلى البلد الذي احتضنهم، فأنشأوا مجتمعات مغلقة تُعيد إنتاج ما تركوه وراءهم. هذا الرفض للاندماج يُترجم إلى صدام مباشر مع قيم المجتمع المضيف، خصوصًا تلك المرتبطة بالحرية الفردية والمساواة.
هذا الرفض جعل المهاجر العربي، واليمني بشكل خاص، يقع في فخ التناقض السياسي. فبدلًا من الانحياز إلى اليسار الليبرالي الذي يتبنى قضايا المهاجرين والأقليات، ابتعد عنه بل هاجمه بسبب مواقفه المنفتحة تجاه الحريات الفردية والهوية الجندرية التي تتعارض مع قناعاته الدينية والتقليدية. وهكذا وجد المهاجر نفسه في صف اليمين المتطرف، متجاهلًا أن هذا الحزب يتبنى خطابًا معاديًا للمهاجرين والمسلمين، ويرى فيهم تهديدًا للهوية الأمريكية والقيم الغربية، لكنه يظن أن اليمين يشاركه خوفه مما يسميه "الانحلال القيمي".
وهذا ما حدث فعلًا في ولاية ميشيغان، حيث دعمت الجاليات المسلمة، وعلى رأسها الجالية اليمنية، دونالد ترامب -أيقونة العنصرية- متجاهلة خطابه العدائي للمهاجرين والمسلمين. وكان أمير غالب أول المبادرين إلى دعم ترامب بدعوى حماية القيم المجتمعية، رغم أن هذا الانحياز كان جزءًا من صفقة عُرضت عليه عبر مستشار ترامب وصهره سعد بولس، الذي توسط بين المجتمع العربي وحملة ترامب.
لكن عندما رُشِّح غالب لاحقًا لمنصب دبلوماسي تنفيذًا للوعد، وجد نفسه أمام محاكمة عنصرية قاسية من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين. لم يشفع له تبرؤه من قناعاته السابقة، ولا حتى تبنيه سياسات ترامب التي تعتبر فلسطين الأرض الموعودة والوطن القومي لليهود.. فقد رفضوه وأهانوه ووصفوه بأنه "مسلم راديكالي معادٍ للسامية"، وأشعروه بأنه لا ينتمي إلى المجتمع الأمريكي ولا يستحق تمثيله.
عزلة المجتمع اليمني الأمريكي تُغذّيها نظرية المؤامرة المنتشرة بين المهاجرين العرب، التي تزعم أن الغرب يسعى لطمس الهوية الإسلامية والعربية عبر التعليم والقوانين والحريات. هذا التبني غير الواعي لمثل هذه الأفكار يولد خوفًا وجوديًا يجعل المهاجر يبالغ في عزل أبنائه وتخويفهم من المجتمع المحيط، فينشأ جيل مشوش الهوية يعيش بين عالمين ولا ينتمي لأي منهما.
وبين هذه التناقضات، يبقى المهاجر العربي في معادلة صعبة بين رفض الاندماج مع عدم القدرة على العودة إلى الوطن الأم، يهاجم قيم البلد الذي يعيش فيه لكنه يتمسك بأمانه المادي. في النهاية يفضّل الوقوف في صف اليمين الذي يعزله عن المجتمع الأمريكي، معرضًا وجوده ومستقبله للخطر على المدى الطويل، لأن الأحزاب اليمينية لا تراه إلا يدًا عاملة رخيصة، ولا تعترف به كمواطن.
والطريق الوحيد للخروج من هذا المأزق هو الوعي السياسي والاجتماعي، والتحرر من عقلية المؤامرة، فالاندماج لا يعني الذوبان، بل المشاركة الواعية في المجتمع الجديد والتمسك بالقيم الإنسانية المشتركة دون انغلاق.