الإعلام اليمني وسقوط المهنية
منذ أكثر من عقد ونصف، وتحديدًا منذ أحداث عام 2011، يعيش المشهد الإعلامي اليمني حالة من التشظي غير المسبوق. فقد تفتّحت آنذاك آمال الشباب ببناء دولة مدنية حديثة، دولة تعلو فيها قيمة الكلمة الحرة والصحافة المهنية، لكن سرعان ما تهاوت تلك الآمال تحت وطأة الاستقطاب السياسي، وتحول الإعلام من سلطة رابعة إلى أداة في يد الأطراف المتصارعة. ما بين القنوات التابعة لأطراف متصارعة والممولة من الخارج ضاع صوت الحقيقة وغابت المهنية، فعشرات القنوات الفضائية التي ظهرت بعد 2011، بدلاً من أن تكون منابر للتنوير وكشف الفساد، صارت منصات للحشو والحَشْد: حشو يملأ الأثير بخطابات مكررة وبرامج مستهلكة لا تضيف جديدًا، وحَشْد يجيّش العقول لخدمة الأيديولوجيا والانقسام.
من المفترض أن تكون القنوات الإعلامية في أي بلد ضميرًا حيًّا للمجتمع وسندًا للوطن والمواطن، لكن الواقع في اليمن يكشف العكس تمامًا. فالقنوات التابعة لأحد الأطراف المتصارعة تصوغ برامجها بما يخدم رؤيتها السياسية وتفتح شاشاتها للمتقاربين معها فكريًا، وفي الجهة المقابلة ترد القنوات التابعة للطرف الآخر بخطابٍ مضاد لا يقل تعبئةً وتحريضًا. وبين هذين الطرفين تقف قنوات أخرى تمارس الولاء حسب الممول، تارةً تميل نحو رجلٍ هنا، وتارةً نحو جهةٍ هناك، بلا بوصلة وطنية أو مهنية واضحة. والنتيجة أن المتلقي اليمني يجد نفسه محاصرًا بخطاباتٍ متناقضة يختفي فيها صوت الحقيقة ويُطمس فيها الهمّ الوطني لصالح صراعاتٍ جانبيةٍ تافهة، بينما تتراجع الثقة بالإعلام المحلي إلى أدنى مستوياتها.
من يشاهد الفضائيات اليمنية يدرك بسرعة أن البرامج هي ذاتها منذ سنوات: نفس المقدمين ونفس الضيوف ونفس الجدل والنمطية المملة. المحتوى الإعلامي فقير من حيث العمق وغائب عن التناول المهني للملفات الكبرى كالحرب والسلام والتنمية والعدالة الاجتماعية والتعليم والصحة والبيئة. كل هذه القضايا الجوهرية تُهمّش لصالح الخطاب الحزبي والاصطفاف السياسي. وما يزيد الطين بلّة أن أغلب العاملين في هذه القنوات يفتقرون إلى التأهيل الإعلامي الحقيقي رغم توفر المعاهد والدورات التدريبية وورش العمل في مجال الصحافة الرقمية والإنتاج التلفزيوني. في زمن الذكاء الاصطناعي وسهولة الوصول إلى المعلومات ما زال الأداء الإعلامي اليمني أسير أدواتٍ بدائيةٍ وعقليةٍ دعائيةٍ تفتقر إلى الإبداع والاحتراف.
الحشو هو التكرار الفارغ والحديث الممل الذي لا يحمل مضمونًا، بينما الحَشْد هو التجييش الفكري والأيديولوجي الذي يسلب الناس حريتهم في التفكير. كلاهما اليوم يملأ الشاشات اليمنية، فالحشو يجعل الإعلام بلا روح، والحَشْد يجعله بلا ضمير. الأول يُميت الفكرة، والثاني يُميت الإنسان، وما بينهما تضيع الحقيقة ويتحول الإعلام إلى معولٍ يهدم ما تبقّى من ثقةٍ بين المواطن ووطنه.
اليمن بحاجة إلى ثورة إعلامية لا تقل أهمية عن أي تحول سياسي، ثورة تعيد للإعلام هيبته وتستعيد قيمته كمنبر للوعي لا كأداة للدعاية. ينبغي إعادة تأهيل الكوادر وبناء مؤسسات إعلامية مستقلة تمتلك قرارها وتموّل ذاتها بعيدًا عن الأيدي الخارجية، كما يجب أن يُعاد تعريف الرسالة الإعلامية بوصفها مسؤولية وطنية تستند إلى الحياد والصدق والبحث عن الحقيقة لا إلى التحشيد والتبرير. لقد فقد المجتمع اليمني ثقته في إعلامه لأن هذا الإعلام تخلّى عن دوره في الدفاع عن كرامة الإنسان وحقه في المعرفة، ولعل أول طريقٍ لاستعادة تلك الثقة يبدأ من الاعتراف بالفشل ثم العمل الجاد لتصحيح المسار، فالوطن الذي تُصنع صورته بالكذب لا يمكن أن يُبنى بالصدق، والإعلام الذي يعيش على الحشو والحَشْد لا يمكن أن ينهض إلا حين يقرر أن يكون صوتًا للوطن لا صدى للولاءات..