رائدات في ظروف غير مواتية 3 - الحديدة: تجربة ثانية
في هذه الحلقة، تنتقل المؤلفة إلى محطتها الثانية في اليمن، مدينة الحديدة، لتعمل كأنثروبولوجية في مشروع للرعاية الصحية الأولية. تصف دهشتها من العدد الكبير للمرشدات الصحيات العاملات في المدينة، وهو وضع مغاير تماماً لتجربتها في رداع. توضح طبيعة عملها الذي وضعها في احتكاك يومي ومباشر مع هؤلاء النساء، من خلال تدريبهن والإشراف على أبحاث ميدانية معهن، مما مهد الطريق لعلاقات عميقة أصبحت أساس هذا الكتاب.

هذا الكتاب
الحديدة: تجربة ثانية
أصبح وجودي في رداع بلا جدوى بانتهاء مشروع السجاد فتحولت من رداع إلى الحديدة ميناء اليمن الرئيسي على البحر الأحمر في أغسطس 1993 حيث عرض على العمل كأنثروبولوجية في للرعاية الصحية الأولية الذي تموله هولندا[9]، فقبلت العمل في مكان آخر في اليمن بسعادة بالغة لأنني أحببت الحيّاة والعمل في هذا البلد. وكان حصولي على وظيفة أخرى بسهولة فيما تعذر ذلك على زميلاتي اليمنيات في مشروع رداع إشارة جلية إلي الوضع غير المتكافئ لوضعهن مقارنة بوضعي، حيث أنهن اضطررن إلي البقاء في منازلهن لفقدانهن عملهن بالرغم من استمرار الحكومة اليمنية في دفع رواتبهن.
 كان مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة الذي بدأ عام 1984 مشروعا مشتركا بين الإدارة العامة للتعاون الدولي الهولندي ووزارة الصحة العامة اليمنية. كانت الحديدة مدينة ساحلية صغيرة في أوائل الستينيات لكنها نمت بسرعة شديدة في وقت وجيز لتصبح ميناء اليمن الرئيسي. اجتذبت الأنشطة التجارية في المدينة أعدادا كبيرة من المهاجرين من مختلف المدن اليمنية ومناطق المرتفعات وقرى سهل تهامة الساحلي بالإضافة إلي المهاجرين العائدين من الخارج، وتسبب النمو السريع للمدينة في وقت قصير نسبيا في نشوء حزام من الأحياء العشوائية الفقيرة المحرومة من المياه النقية والكهرباء وخدمات التعليم والرعاية الصحية.
كان مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة الذي بدأ عام 1984 مشروعا مشتركا بين الإدارة العامة للتعاون الدولي الهولندي ووزارة الصحة العامة اليمنية. كانت الحديدة مدينة ساحلية صغيرة في أوائل الستينيات لكنها نمت بسرعة شديدة في وقت وجيز لتصبح ميناء اليمن الرئيسي. اجتذبت الأنشطة التجارية في المدينة أعدادا كبيرة من المهاجرين من مختلف المدن اليمنية ومناطق المرتفعات وقرى سهل تهامة الساحلي بالإضافة إلي المهاجرين العائدين من الخارج، وتسبب النمو السريع للمدينة في وقت قصير نسبيا في نشوء حزام من الأحياء العشوائية الفقيرة المحرومة من المياه النقية والكهرباء وخدمات التعليم والرعاية الصحية.
وفي الوقت الذي تركزت فيه أنشطة الرعاية الصحية التي كانت تنفذها برامج ومنظمات التنمية الأجنبية في المناطق الريفية طوال سبعينيات القرن الماضي تحول انتباه خبراء الصحة الدوليين إلي ضرورة الاهتمام بأحزمة الفقر حول المدن الكبيرة (cf. Rossi-Espangnet 1984) وكان مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة نتاجا لهذا الاتجاه الجديد في التفكير وقد تم تصميمه كمشروع تجريبي على أن يتم توسيعه لتغطية كل أنحاء مدينة الحديدة وربما مناطق أخرى في اليمن بناءً على نتائجه.
تشكلت أول مجموعة خبراء من د. كارل روير رئيس الفريق ود. محمود[10] خبير الصحة العامة التونسي، ثيرا دي هاس ممرضة صحة عامة، فيرا تيرانيو قابلة صحية (ممرضة توليد) ويوكا بورينخا أنثروبولوجية وكانوا مسؤولين عن تنفيذ أنشطة المشروع بالتضامن مع نظرائهم اليمنيين من وزارة الصحة العامة اليمنية[11].
بدأ المشروع أولى أنشطته بافتتاح مركز صحي صغير لخدمات صحة الأمومة والطفل في إحدى أحياء السكن العشوائي في الحديدة وبسب عدم توفر ممرضات يمنيات عملت الممرضة والقابلة الصحية الهولنديتين في ذلك المركز مبدئيا. وكان النشاط التالي الفائق الأهمية للمشروع هو تدريب نساء يمنيات للعمل في مجال التعليم والإرشاد الصحي كمرشدات صحيات. وقد تم تدريب المرشدات، اللواتي أكملن جميعا ستة سنوات من التعليم الابتدائي، لمدة عام كامل في مجال خدمات الصحة الوقائية وبالتحديد في صحة الأمومة والطفولة. لم يكن من اليسير في البداية العثور على نساء للتدريب كمرشدات بسبب تدني نسبة التعليم بين النساء بالدرجة الأولى والنظرة السلبية لعمل المرأة المأجور عموما وفي الحقل الصحي على وجه التحديد. كان الرجل - ولا يزال - يعتبر هو العائل الوحيد لأسرته كما أن الفصل الحازم بين الجنسين يحد من فرص حصول النساء على عمل مأجور. يضاف إلي ذلك كله المكانة الاجتماعية المتدنية لبعض أشكال العمل الصحي كونها تتضمن ملامسة الأجساد والسوائل التي تفرزها، وكان السائد تقليديا أن يؤدي مثل هذه الأعمال أفراد ذوي مكانة اجتماعية متدنية cf. Gerholm 1977: 131)).
وبالرغم من هذه المعوقات فقد تمكن المشروع من تدريب وتوظيف عشرين مرشدة في الحديدة خلال عامين. قسمت المرشدات وقتهن بين تقديم خدمات الصحة الوقائية في المراكز الصحية وتقديم الإرشاد الصحي في زيارات منزلية للنساء في بيوتهن. واُنشأ مركز صحي ثان تابع للمشروع في حي عشوائي آخر عام 1989.
عندما وصلت للحديدة في أغسطس 1993 كان المشروع قد توسع لتغطية جميع المراكز الصحية الثلاثة عشر في الحديدة وكانت هنالك أكثر من مائة مرشدة يعملن في المراكز الصحية في الحديدة بعد أن تم تدريبهن بواسطة العديد من المنظمات الأجنبية المانحة وكان عدد منهن يتحملن مسؤولية إدارة بعض هذه المراكز وقد أعجبت كثيرا بالعدد الكبير من النساء العاملات في الرعاية الصحية خاصة المرشدات وكان الوضع مغايرا تماما لما كان عليه في رداع.
نظرا لطقس الحديدة[12] الحار جدا نُصحت بالبحث عن سكن جيد مكيف الهواء يمكن الاسترخاء فيه بعد العمل وحصلت على مسكن صغير مستقل في واحدة من أحياء الحديدة الراقية وقد سبب لي ذلك بعض الضيق والحرج في البداية بسبب من تناقضه الحاد مع ظروف السكن الرديئة لقاطني الأحياء العشوائية والمرشدات اللواتي اقضي معهن معظم أوقاتي لكن ومع مرور الوقت تكشفت لي مزايا هذا الوضع خاصة على ضوء الوقت الطويل الذي كنت انوي أن اقضيه في الحديدة. من الممكن قضاء وقت محدود في ظروف سكن رديء لكنى اشك في أنني كنت سأبقى في الحديدة لأربع سنوات دون الراحة والخصوصية التي يوفرهما مسكن جيد. وكان تحت تصرفي سيارة تابعة للمشرع يشاركني فيها في البداية نظيري اليمني وقد ساعدني ذلك كثيرا في التحرك في الحديدة بحرية.
وبينما كانت رداع مدينة صغيرة يسكنها ثلاثون ألف نسمة كانت الحديدة ميناء تجاريا مزدحما ويقطنها أكثر من ثلاثمائة ألف نسمة وقد استخدمت سيارة المشروع للذهاب للعمل وزيارة المراكز الصحية ومختلف المناطق التي يتطلبها عملي لكنني كنت أيضا استخدمها لزيارة الزملاء والأصدقاء خارج أوقات العمل وفي العطلات الأسبوعية.
ما هي مهمة الأنثروبولوجي في مشروع للرعاية الصحية الأولية؟ في منتصف السبعينيات اتضح تماما أن إدخال التكنولوجيا لم يؤد تلقائيا إلي تحسن مستوى معيشة غالبية السكان وإن تحقيق ذلك يستوجب أخذ العوامل الاجتماعية والثقافية بعين الاعتبار، ومنذ ذلك الحيّن وجدت أعداد متزايدة من الأنثروبولوجيين طريقهم إلي مشاريع التنمية خاصة مشاريع الرعاية الصحية الأولية التي وظفت الأنثروبولوجيين على نطاق واسع بسبب الأهمية الكبيرة التي أوليت للمفاهيم المحلية حول الصحة والرعاية الصحية والمشاركة المجتمعية[13].
عمل الأنثروبولوجيون الأجانب في مشروع الحديدة منذ البداية بعقود دائمة ومؤقتة[14] وأجروا بالتعاون مع المرشدات دراسات أولية أساسية في مناطق المشروع وبعض تحليلات البحوث التطبيقية القصيرة وقدموا المشورة حول تأسيس برامج محو الأمية وتعليم الخياطة للنساء في المراكز الصحية[15]. كانت تلك هي أيضا مسؤولياتي وعلاوة على تأسيس برنامج لإشراك المجتمع المحلي في المشروع حيث كان علىّ أن اعمل على تأسيس ثلاثة عشر لجنة صحية محلية في المناطق المحيطة بالمراكز الصحية، وكانت هذه اللجان تضم خمس شخصيات محترمة من المجتمع المحلي لتمثيل مصالح المجتمع في المنطقة التي يقع فيها المركز الصحي وتحديد أوجه صرف الأموال التي تجمع من المستفيدين من خدمات المركز بموجب نظام استعادة التكلفة[16]. كما كان تدريب أعضاء هذه اللجان ومراقبة أداءها جزءً من واجباتي وكان علىّ أن أقوم بكل ذلك بالتعاون الوثيق مع المرشدات والقابلات الصحيات والممرضات في المراكز الصحية ومكتب الصحة بمحافظة الحديدة.
خلال السنوات الأربع والنصف التي قضيتها بالحديدة عملت بتعاون وثيق مع المرشدات في تدريب اللجان الصحية والإشراف عليها بالإضافة إلي مجهودات محدودة المدى لإجراء بحوث حيث درسنا العادات الغذائية السائدة وتغذية الأطفال وسط فقراء الحديدة، و اثر برامج محو الأمية وتعليم الخياطة وبرامج الرعاية الصحية للفقراء في المركز الصحي وممارسات وطرق التوليد التقليدية في المدينة. كل هذه البحوث كانت مبنية على احتياجات العاملين في المراكز الصحية وإدارة المشروع وقد جرى تصميم البحوث وتنفيذها وإعداد تقاريرها بالتعاون مع المرشدات والممرضات والقابلات العاملات في المراكز الصحية. وكانت مهمتي الرئيسية هي تدريب النساء العاملات في الحقل الصحي والإشراف عليهن أثناء إجراء البحث وليس إجراء البحث بنفسي، لإكسابهن مهارات استقصاء المشاكل والقضايا التي تواجههن أثناء أدائهن لعملهن. أعددت لائحة حول كيفية اختيار اللجان الصحية المحلية بالتعاون مع المرشدات والمشرفين عليهن تعتمد على المناقشات مع المجموعة المستهدفة، والزيارات المنزلية وإجراء مقابلات معمقة مع المرشحين لعضوية هذه اللجان[17]. وقد تم بناء على ذلك تشكيل ثلاثة عشر لجنة صحية محلية تضم في عضويتها رجال ونساء من المجتمع المحلي وأسسنا نظاما لمتابعة أنشطة هذه اللجان وقد قبلت الإدارة الإقليمية للصحة هذه اللجان تدريجيا وأصبحت لها كلمة في إدارة الخدمات الصحية.
استمتعت بعلاقتي الوثيقة بالمرشدات والمجتمع المحلي والزيارات المنزلية للذين كنا نجري المقابلات معهم لكنني بدأت المس بنفسي محدودية البحوث التطبيقية حيث أن أي بحث كان يجب أن يفضي إلى توصيات أو خلاصات قابلة للتطبيق الفوري علاوة على أن المرشدات كن يعانين من عبء العمل الزائد في المراكز الصحية والإرشاد الصحي والزيارات المنزلية وبعض المهام الإضافية الأخرى مما يستنزف وقتهن تاركا القليل جدا منه لإجراء البحوث. وكان وقتي أنا أيضا محدودا، وبمرور الوقت بدأ الحنين يراودني إلى البحث الأكاديمي المعمق مرة أخرى وقررت أن استخدم وقت فراغي في جمع المادة لإجراء بحث أكاديمي معمق ولم يكن اختيار موضوع لرسالة الدكتوراه أمرا صعبا، فقد كنت ارغب في معرفة المزيد عن خلفيات ودوافع المرشدات لأنني كنت مهتمة بذلك منذ تجربتي الأولي في رداع.
عن المؤلفة
هوامش ومراجع
[10] فشلت في التعرف على الاسم الثاني للطبيب التونسي وكانت المرشدات يسمونه محمود التونسي وكان دوره في المشروع محدودا وقد غادره بعد عام واحد في عام 1985.
[11] يتضمن الفصل الرابع من هذا الكتاب عرضا لتاريخ المشروع.
[12] متوسط درجة الحرارة في الحديدة بين أبريل وأكتوبر يبلغ 45 درجة مئوية مع نسبة رطوبة عالية جدا وتنقص عشرة درجات فقط عن ذلك في بقية شهور السنة
[13] سأتعرض لمقاربة الرعاية الصحية الأولية بالتفصيل في الفصل الثاني
[14] كانت هناك أنثروبولوجية هولندية ضمن فريق لمشروع منذ البداية، كما أجرى أنثروبولوجي أمريكي دراسة عام 1987، وقدم أنثروبولوجي هولندي ثلاث استشارات قصيرة بين عامي 1988 و1990: بين عامي 1990 و1993 لم يكن بالمشروع أنثروبولوجي. عملت بالمشروع من أغسطس 1993 حتى ديسمبر 1997 مع غياب دام خمسة أشهر أثناء الحرب الأهلية اليمنية في صيف 1994
[15] كانت نسبة الأمية وسط النساء اليمنيات عالية جدا حيث بلغت 76.1% عام 1999 (UNDP 2002: 151). وقد اثبت على نطاق العالم أن معرفة القراءة والكتابة يؤثر إيجابيا على السلوك الصحي للمرأة وعملت جميع مشاريع الرعاية الصحية الأولية على تضمين أنشطتها برامج لمحو الأمية، كما أدخلت برامج لتعليم الخياطة لأنها توفر فرصة للحصول على دخل لنساء الأحياء الفقيرة (151 :2000- 1999 (UNDP
[16] سأتعرض بالتفصيل لنظام استعادة التكلفة والمشاركة المجتمعية في الفصل الرابع.
[17] لوصف تفصيلي لمشاركة المجتمع المحلي في برنامج الحديدة راجع De Regt (1977)
 
                 
                                                                                 
                         
                        