رائدات في ظروف غير مواتية 2 - رداع: التجربة الأولى في العمل التنموي

رداع: التجربة الأولى في العمل التنموي
في يونيو عام 1991، أي بعد عام واحد من إنهاء دراستي الجامعية في الأنثروبولوجيا في جامعة أمستردام، قرأت إعلانا عن وظيفة في مشروع للتنمية الريفية في اليمن تطلب فيه المنظمة الهولندية للتنمية[1] مستشارة في الصناعات اليدوية للمساعدة على تطوير منافذ تسويق لمنتجات السجاد الذي تصنعه نساء ريفيات في محافظة رداع في اليمن. شعرت بالرغبة في الحصول على هذه الوظيفة بالرغم من أنني درست الأنثروبولوجيا وليس الحرف اليدوية.
أثناء دراستي للحصول على درجة الماجستير في الثمانينيات تخصصت في موضوع النساء والعمل المأجور في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وكنت متحمسة لفكرة العمل في الخارج في حقل ذي صلة بموضوع دراستي، هذا علاوة على أنني كنت أتساءل دائما عن جدوى وقيمة البحث العلمي الاجتماعي بالنسبة للبشر الذين يكونون موضوعا لهذه البحوث وكنت ابحث عن وسيلة لإجراء بحوث نافعة للبشر الذين يدور البحث حولهم.
بوحي من المناقشات التي كانت تدور في مجال الدراسات النسوية[2]، اكتسبت ميلا إلى العمل فيما سمى وقتها بـ "البحث النشط" وهو نوع من البحوث يشارك فيه الأفراد أو المجموعات موضوع الدراسة بنشاط في مختلف مراحل البحث مثل تصميم البحث وتحليل نتائجه وتعمل هذه البحوث على تحقيق هدف واضح هو التغيير الاجتماعي.
لم تكن تجربتي الأولى في المغرب مرضية بالنسبة لي من هذه الناحية، فقد اخترت موضوع الأدوار المتغيرة للنساء العاملات في صناعة السجاد في مدينتي الرباط وصالة المغربيتين لكن رغبتي في إشراك النساء اللواتي كنت ادرس أحوالهن في بحثي لم تتحقق إذ كان ذلك أصعب مما توقعت، وتمنيت أن اعمل من خلال منظمة أو مشروع لتحقيق رغبتي وجاء مشروع اليمن مدخلا لتحقيق أمنيتي ومبادئي وطموحاتي النسوية.
تقدمت للوظيفة في اليمن وحصلت عليها وساعدني في ذلك أنني أتحدث العربية، (باللهجة المغربية) إضافة إلي معرفتي السابقة بصناعة السجاد، ولو أنها كانت من منظور أنثروبولوجي وليس ذي صلة مباشرة بالتسويق. وحصلت على عقد لمدة ثلاث سنوات للعمل كمستشارة للحرف اليدوية في مشروع التنمية الريفية المتكاملة بمحافظة رداع في اليمن وهو مشروع مشترك للإدارة العامة للتعاون الدولي التابعة لوزارة الخارجية الهولندية[3] ووزارة الزراعة اليمنية، وخلال وقت قصير وجدت نفسي اُستعد للسفر إلى اليمن التي كنت اعرف عنها القليل جداً.
عندما وصلت اليمن في نهاية عام 1991 كانت زهرة[4] أول امرأة يمنية قابلتها تعمل في الإرشاد الزراعي الريفي في مشروع التنمية الريفية المتكاملة برداع وهي مدينة ريفية تقع جنوب شرقي صنعاء وتبعد عنها ساعتين بالسيارة في منطقة تعتبر قبلية ومحافظة جدا. بدأ مشروع التنمية الريفية المتكاملة بمحافظة رداع عام 1978 وكان من المخطط أن يستمر حتى عام 1994 ويستهدف المشروع تحسين مستوى معيشة مواطني منطقة رداع بإنشاء الطرق والسدود وتطوير تقنيات الري واستدخال وسائل وتقنيات زراعية جديدة.
كانت زهرة واحدة من المرشدات الزراعيات في قسم الإرشاد الزراعي النسوي بالمشروع وكانت النظيرة المحلية لي خلال السنوات التالية. تتلخص وظيفتها في تقديم الإرشاد وتعليم النساء وتدريبهن على وسائل وطرق جديدة للحياة والعمل،[5] وعلى سبيل المثال يعمل المرشدون والمرشدات في الإرشاد الزراعي وفي مجال المياه والصرف الصحي والإرشاد الصحي وقد حصلوا جميعا على التعليم الأساسي كحد أدنى إضافة إلي عام كامل من التدريب الذي مولته منظمات أجنبية في المجال الذي تخصصوا فيه. وفر المشروع التدريب للمرشدات في رداع وقامت وزارة الزراعة اليمنية بتوظيفهن. عملت المرشدات مع خمسة خبراء أجانب، سودانيين اثنين في مجال الإرشاد الزراعي والإنتاج الحيّواني وثلاثة هولنديين في مجالات الصحة، التغذية والحرف اليدوية وقد عمل كل منهم مع إحدى المرشدات لتنفيذ البرنامج الإرشادي الموجه للنساء الريفيات.
أعجبت منذ البداية بالدوافع القوية لزهرة وزميلاتها المرشدات اليمنيات الأربعة فقد كن شابات طموحات تدفعهن إرادة قوية للارتقاء بحياتهن شخصيا وبحياة النساء الأخريات. وقد جبن القرى برفقة نظرائهم من الخبراء الأجانب وفي بعض الأحيان بمفردهن بصحبة سائق لإرشاد النساء حول الوسائل والتقنيات الزراعية الحديثة وطرق العناية بالحيّوانات، والإرشاد الصحي والغذائي ولتعليم النساء كيفية صناعة السجاد المعقود من صوف الأغنام. لقد صمدن بمفردهن في رداع حيث كان عدد قليل جدا من النساء يعملن مقابل أجر ويدخلن الحيّاة العامة. وقد أخبرتني النساء الهولنديات اللواتي كن يعملن بالمشروع عن الصعوبات الجمة التي واجهنها للعثور على نساء يمنيات راغبات في القيام بمثل هذه الأعمال وكيف أنهن كن سعيدات بالعمل مع نظيراتهن اليمنيات.
كانت العلاقة بين الخبراء الأجانب ونظيراتهن اليمنيات مضللة بالنسبة لي، الهولنديات بملابسهن الزاهية الألوان حاسرات الرؤوس[6] يقدن السيارات ذات الدفع الرباعي واليمنيات بالشرشف[7] (الملاءات) الملتف حول أجسادهن وعيون تطل من خلف الحجاب الذي يغطي الوجه وحركتهن المحدودة، لم يكن ثمة تناقض أكثر وضوحاً من ذلك ومع ذلك فقد بدا أن هنالك تعاوناً ناجحاً بينهن.
خلال السنوات الخمس الماضية تمكنت زهرة والمستشارة الهولندية التي سبقتني من تدريب خمسين امرأة ريفية في ثلاثة قرى على صنع السجاد الصوفي يدويا وكانت مهمتي هي البحث عن قنوات تسويق مستدامة لسجادهن.
في السابق كان الرجال اليمنيون يصنعون السجاد الصوفي على منوالات أفقية لكن هذه الحرفة أوشكت أن تندثر بهجرة الرجال إلي مناطق اليمن الأخرى والسعودية ودول الخليج إضافة إلي حلول سجاد المصانع محل السجاد اليدوي لتوفر الأموال لشرائها وهُجر صنع السجاد اليدوي منذ ذلك الوقت. في عام 1986 تم استقدام مستشارتين مغربيتين للمشروع اقترحتا تدريب النساء الريفيات على صنع السجاد اليدوي على منوال رأسي يمكن وضعه داخل المنزل بالعكس من المنوال الأفقي الذي يجب وضعه خارج المنزل لأنه يحتل مساحة كبيرة.
أظهرت النسوة في قرى رداع اهتماما بالغا باكتساب مهارات جديدة تساعدهن في الحصول على دخل مستقل. في السنوات اللاحقة تم تدريب خمسين امرأة ريفية على صنع السجاد المعقود لكن الخبراء الأجانب المقيمون في اليمن[8] كانوا المشترين الوحيدين للسجاد المصنوع يدويا لأن اليمنيين كانوا يفضلون السجاد المصنوع آلياً ذي الألوان المتعددة على السجاد الأبيض المصنوع من صوف الأغنام.
كانت الهوة بين صانعات السجاد وزبائنهن المحتملين كبيرة جداً حيث انه كان من المتعذر على النساء مغادرة قراهن لبيع السجاد في المدن ولم يهتم أقاربهن الذكور بتسويق السجاد وكنت أنا الوحيدة القادرة على تجسير هذه المسافة ببيع السجاد في صنعاء كما كانت تفعل الهولندية التي حللت محلها. فشلت جهودنا في تطوير وسائل تسويق دائمة أخرى وبما أن المشروع برمته كان على وشك الانتهاء فقد تقرر إيقاف برنامج السجاد تاركين خمسين امرأة ريفية بلا مصدر دخل.
واجهتني تجربتي الأولى في مشروع للتنمية مباشرة بالتفاؤل المفرط لخبراء التنمية الأجانب وأفكارهم غير المدروسة جيدا التي تنتهي بإدخال أنشطة دون استبصار لنتائجها بعيدة المدى كما كنت أتساءل عما سيحدث للمرشدات اليمنيات عند انتهاء التمويل الهولندي للمشروع، بالرغم من أنهن كن موظفات لدى وزارة الزراعة اليمنية ولا تقوم المنظمات الأجنبية المانحة بدفع رواتبهن إلا أن سياق عملهن كان مرتبطاً بوجود الخبراء الأجانب إلي حد كبير إذ أن الخبراء الأجانب هم الذين كانوا يدعمون عمل المرشدات كما إن كل الأنشطة كانت ممولة من الدعم الهولندي. خلال العام والنصف التي قضيتها في المشروع غادرت الغالبية العظمى من الخبراء الأجانب لأن المشروع كان يشارف على نهايته كما تقلص عمل المرشدات تدريجياً حيث تزوجت اثنتان منهن وتركن العمل.
بتوقف الدعم الفني والمالي الهولندي لمشروع التنمية الريفية المتكاملة برداع نهائيا في نوفمبر 1994 توقفت أنشطة قسم الإرشاد الريفي النسوي بدورها إذ لم يعد هنالك مال لوقود السيارات للطواف على القرى وظلت المرشدات اللواتي بلا عمل في المكاتب. وبعد وقت قصير غادر رئيس القسم إلى وظيفة أخرى وفضلت اثنتان من المرشدات، إحداهن زهرة، البقاء في منازلهن حيث لم يعد هناك جدوى من الذهاب للعمل لعدم توفر سيارات ولا موارد لتمويل أنشطة القسم كما كان ذلك هو حال الأقسام الأخرى للمشروع. انهار مشروع التنمية الريفية المتكاملة برداع بالرغم من برامجه التي كانت تطمح لأن تكون نقطة انطلاق للتنمية الريفية في كل المنطقة.
هذا الكتاب: «رائدات في ظروف غير مواتية — المرشدات الصحيات وسياسات التنمية في اليمن» كتابٌ أنثروبولوجي يستعيد تجربة برامج الصحة العامة في اليمن عبر حياة وعمل النساء اللاتي شغِلْنَ دورَ المرشدة الصحّية. يعتمد الكتاب على مواد ميدانية غنية وحكايات شخصية من محافظات مثل الحديدة ورداع، ويقسّم المادة إلى أجزاء توضح تاريخ سياسات التنمية، مشاريع هولندية-يمنية، تجارب مجموعات مرشدات مختلفة، وتأثيرات العمل المأجور والعودة من الهجرة على أوضاع وهوية النساء.
هوامش:
[1] SNV Stichting Nederlandse Vrijwilligers, منظمة هولندية تدعى "جمعية المتطوعين الهولنديين تأسست عام 1965 لإلحاق متطوعين هولنديين بالعمل في مشروعات التنمية الهولندية في الخارج لكنها تحولت تدريجيا إلى التوظيف العادي للعاملين في مشاريع التنمية.
[2] لمزيد من الاطلاع على النقاشات حول مناهج البحث النسوية في أوائل الثمانينيات راجع مثلا Caulfield (1979)، Roberts (1981)، Mies (1983) والمساهمات الأخرى في Bowles and Duelli Klein (1983).
[3] حتى عام 1963 كانت وزارة الخارجية الهولندية مسؤولة مباشرة عن التعاون التنموي الدولي، في 1964 أنشأت إدارة التعاون التنموي الدولي كإدارة تابعة لوزارة الخارجية the General Directorate of International Cooperation (DGIS) وفي العام 1965 عين أول وزير للتعاون التنموي الدولي كوزير بدون وزارة وتحولت عام 2002 إلى وزارة دولة تابعة لوزارة الخارجية (Erath and Kruijt 1988: 40)
[4] لأسباب تتعلق بحساسية وشخصية المعلومات التي حصلت عليها استخدمت أسماء مستعارة لليمنيين الذين أمدوني بهذه المعلومات فيما استخدمت الأسماء الحقيقة للسياسيين اليمنيين والشخصيات الهولندية دون تغيير.
[5] يستخدم اسم مرشد ومرشدة للإشارة إلي أعضاء فرق الكشافة أيضا في اللغة العربية وهو غير المعنى المستخدم في الكتاب بالطبع وقد استخدمت المفردتين كما هما في العربية دون ترجمتها إلي الإنجليزية وهكذا كان يفعل معظم العاملين الأجانب في التنمية في اليمن.
[6] لا تغطي أغلبية الهولنديات العاملات في التنمية في اليمن رؤوسهن حتى في المناطق المحافظة جدا في اليمن باعتبار أن اليمنيين قد تعودوا عليهن دون غطاء للرأس لذلك فقد عملت بالتقاليد المتبعة بين الهولنديات العاملات في التنمية في اليمن ولم أكن أغطى شعري طوال فترة بقائي في اليمن بالرغم من أنني كنت مستعدة لذلك.
[7] الشرشف لباس نسوي يمني يتكون من ثلاث طبقات واحدة منها تغطى الوجه يلبسنه عند الخروج من البيت.
[8] كان هناك عددا كبيرا نسبيا من الأجانب في اليمن يتكون من العاملين في مشاريع التنمية والسفارات وقطاع الأعمال.