صنعاء 19C امطار خفيفة

رائدات في ظروف غير مواتية 16 - نساء من المدينة: حواء

رائدات في ظروف غير مواتية 16 - نساء من المدينة: حواء
مارينا دي ريخت في اليمن من الصورة مع يمنيات

في هذا الفصل، ننتقل من التحليل العام للسياسات إلى قلب التجربة الإنسانية، حيث تروي المؤلفة قصص حياة الدفعة الأولى من المرشدات الصحيات اللواتي تدربن في منتصف الثمانينيات. من خلال قصة حواء التي تمثل نموذجاً لهذه المجموعة، يستكشف الفصل دوافعهن الحقيقية للانخراط في مجال عمل جديد ومثير للجدل في مجتمع محافظ. يكشف الفصل كيف أن "الشوق للتعليم" وتطوير الذات كان المحرك الأساسي لهؤلاء النساء اللواتي أتين من خلفيات عائلية تقليدية، وكيف استخدمن استراتيجيات ذكية للتفاوض مع أسرهن والمجتمع، وخلق "مساحة للمناورة" مكنتهن من تغيير الحدود الاجتماعية المرسومة لهن تدريجياً، وتحقيق طموحات لم تكن ممكنة من قبل.

5.1 حواء

يبدأ الفصل بقصة حياة حواء، وهي واحدة من أبرز مرشدات الدفعة الأولى. تُستخدم قصتها كمدخل تفصيلي لفهم تجربة هذه المجموعة الرائدة. من خلال سرد رحلتها الشخصية بدءًا من حرمانها من إكمال تعليمها في طفولتها، وزواجها المبكر، ثم عودتها للدراسة والعمل، ترسم المؤلفة صورة حية للتحديات التي واجهتها والاستراتيجيات التي استخدمتها للتغلب على معارضة أسرتها، ممهدةً لتحليل أعمق لدوافع وطموحات هذه المجموعة من النساء.

الحديدة في مايو 1997، أنا استعد للمقابلة الأولى لهذه الدراسة. وافقت حواء وهي واحدة من مرشدات الدفعة الأولى اللواتي تدربن في الفترة من 1985 إلى1986 على التحدث إليّ حول تدريبها وحصولها على عمل مأجور. تعرفت على حواء في الأيام الأولى لوصولي إلى الحديدة وكانت مسؤولة عن عيادة رعاية الطفولة والأمومة في واحد من المراكز الصحية الرئيسية الثلاث في الحديدة، لذلك فقد عملنا سويا لوقت طويل وكنت كثيرا ما أزورها في بيتها.

رئدات في ظروف غير مواتية صورة الغلافسمعت عن المشاكل التي حدثت لحواء في سنوات المشروع الأولى بسبب رفض أقاربها الذكور فكرة عملها لكن هذه المشاكل لم تتكرر منذ أن تعرفت عليها وكان من الواضح أنها تؤدي عملها دون عوائق. سألتها مرة عن رد فعل زوجها وهو يراها تعمل صباحا وبعد الظهر وأحيانا ليلا كقابلة فأجابت قائلة انه لا يشكو طالما يجد طعامه أمامه في الوقت المناسب وأضافت "يجب ألا تهملي زوجك أبدا ويجب أن تمنحيه الاهتمام والرعاية التي كان يجدها منك دائما حتى لا تعطيه فرصة للشكوى والتذمر". لكنني اعتقد أن تنفيذ ذلك أصعب بكثير من قوله.

ادخل إلى سيارتي وأقودها من الحيّ التجاري في الحديدة عبر شارع الحمدي، شارعي المفضل في الحديدة بمتاجره ومطاعمه الشعبية الصغيرة ثم اعبر الحديقة العامة في نهاية شارع صنعاء، في أطراف الحديدة، عندما يصل الطريق إلى سهل تهامة المنبسط، أستدير يمينا بالسيارة بقوة دفع رباعية لعبور الرمال المكومة أمام منزل حواء. يفتح أحد أبنائها باب منزلها فتندفع هاجر وهدي أصغر بنات حواء لاستقبالي قرب السيارة بالقبلات وندخل البيت متماسكين. في الطرف القصي من البيت تقف حواء في انتظاري قائلة "مرحبا يا مارينا مرحب" وتقودني إلى غرفة الضيوف، إحدى غرفتي المنزل المبني من بلوكات الأسمنت العارية وبه مطبخ وحمام وتحتل الغرف مساحة صغيرة من الفناء الواسع للبيت الذي تُمارس فيه أنشطة الحيّاة اليومية.

حواء معروفة بكرمها وطعامها الجيد الذي دائما ما تدعو إليه الضيوف، وأني لأعجب كيف تتدبر حواء أمرها كمسؤولة عن عيادة، أم لخمسة أطفال، زوجة، قابلة صحية، وأخت وصديقة جيدة، ما اعلمه جيدا هو أنها تأخذ الحيّاة بجدية وتنظم وقتها جيدا على المستويين الشخصي والمهني وفي ذلك تشبه كثيرا صديقتها الحميمة القديمة ثيرا دي هاس منذ بدء تدريبها عام 1985 لتعمل في المشروع.

كانت ثيرا دي هاس وحواء شخصيتان محوريتان في المشروع، ملتزمتان بعملهما بجدية بالغة وتتميزان بالعملية والكرم والرغبة في مساعدة الجميع وأكثر من ذلك كانت ثيرا وحواء تشتركان في حبهما للتحدث عن المشروع خاصة عن أيام طفولة المشروع في السنوات الأولى حيث بدأ دون خطة منتظمة وبعدد قليل من المرشدات، كانتا فخورتان بما تحقق خلال السنوات العشر الماضية لذلك قبلت التحدث معي وإجراء المقابلة بسعادة بالغة. حواء تحب أن تقتسم خبراتها وأفكارها مع الآخرين واهتمت بمشروع بحثي كثيرا ولأنها عميقة الارتباط بالمشروع وجدت انه من المهم أن يتم توثيق تجربة المرشدات. بعد احتساء كوب الشاي الأول نستعد للبدء في الحديث وترسل حواء أطفالها إلى الخارج وافتح جهاز التسجيل وابدأ بسؤال حواء متى وأين ولدت، خلال دقيقتين تفقد المقابلة طابعها الرسمي وتبدو السعادة على حواء وهي تحكي قصتها.

سيتم التركيز في هذا الجزء على خلفيات المرشدات والأوضاع الاجتماعية للدفعة الأولى من المرشدات اللواتي تدربن عام 1995 والكيفية التي غيرن بها الحدود التقليدية بالدخول إلى حقل جديد من العمل المأجور بالنسبة للمرأة اليمنية. ما هي الخلفيات العائلية والتعليمية لمرشدات الدفعة الأولى؟ وما هي الأسباب التي دفعتهن لاتخاذ قرار القبول بنوع جديد من العمل المأجور؟ كيف تم توظيفهن وكيف أثر ذلك على اختيارهن؟ كيف مثل عمل المرشدات الأوائل تحديا للأيديولوجيات الجندرية السائدة؟ وكيف تعاطت المرشدات مع أوضاعهن الجديدة.

قدمت حواء نفسها بالقول بأنها ولدت في الحديدة عام 1962 في حي المطرق "لدى ست أخوات وثلاثة إخوة، أنا البنت الوحيدة التي تعمل بين أخواتي وكلهن متزوجات ولا يعملن، إخوتي الثلاثة أيضا متزوجون ولديهم وظائف جيدة أثنين منهما درسا هندسة الطيران في روسيا والثالث تخرج من كلية الشرطة وهو يعمل كوكيل نيابة في تعز. أما البنات فلم يكن يسمح لهن بالذهاب إلى المدرسة في الماضي، التحقت بالمدرسة في طفولتي لكني تركت الدراسة بعد الصف الرابع الابتدائي". أخبرتني حواء بأنه كانت هنالك مدرسة بنات في الحديدة عندما كانت طفلة لكنها اختلفت أولا إلى مدرسة القرآن "كل أفراد أسرتي درسوا القرآن أولا أما البنات فلم تدرس واحدة منهن كما فعلت أنا".

سألتها لماذا لم تكمل بقية أخواتها الدراسة فأجابت "لقد درسن القرآن وواحدة منهن درست أيضا للصف الرابع بعد ذلك توقفن، على البنات أن يبقين في البيت، إذا تعلمن القراءة والكتابة وأمور الدين فإن هذا يكفيهن، لأنهن سيعرفن كيف يقرأن وكيف يصلين وما هي أوامر الله. لم يكن من الضروري أن يتعلمن أكثر من ذلك" وهل أكمل إخوانك الذكور دراستهم؟ "نعم أكملوا دراستهم الثانوية ودفع والدي بنفسه نفقات دراستهم في الخارج، لقد كان قادرا على ذلك، لدينا منزل هنا أخر في تعز كنت حالتنا طيبة".

ينحدر والدا حواء من قرية قرب المحويت في منطقة المرتفعات في اليمن وكانا أبناء خالات. هاجر والداها إلى الحديدة في عهد الإمام وكان والد حواء جنديا في جيش الإمام. بعد الثورة افتتح بقالة ثم صار مقاولا وبنى عددا من المنازل لنفسه ثم توقف عن العمل ليعيش على عائدها. وتقول حواء "كنت أحب الدراسة كثيرا، وكنت واحدة من أفضل التلميذات في المدرسة، عندما قرر والدي إخراجي من المدرسة ذهب إليه مدير المدرسة ونصحه بألا يفعل ذلك وان يدعني أكمل دراستي لكن والدي أصر على أن أربع سنوات تكفي" وسألتها عما إذا كانت غاضبة من قرار أبيها فقالت "لقد قال إن ذلك يكفي" كان عمرها حوالي اثني عشر عاما عندما توقفت عن الدراسة.

بعد أربع سنوات من تركها للمدرسة تزوجت حواء بابن خالها احمد. وبالرغم من أن احمد قريب أمها، التي يمكن أن تكون قد أثرت على ترتيب هذه الزيجة، إلا أن حواء أصرت على أن أبيها هو الذي فعل ذلك "والدي هو الذي اتخذ القرار". كان احمد يعمل في السعودية منذ أوائل السبعينيات[122] وعاد لليمن لفترة قصيرة للزواج. كانت حواء تعيش مع والديها في أول الأمر لكنها رحلت مع زوجها لشقة منفصلة بعد إنجاب طفلها الأول وحملها بطفلها الثاني وواصل احمد عمله في السعودية.

"كان يعود من السعودية التي كان يكسب فيها عيشه كعامل لفترة قصيرة كل ستة أشهر وعندما يسافر تسكن معي شقيقتي بلقيس وفي بعض الأحيان يبقى معنا أحد الجيران لأنني كنت وحيدة وأطفالي صغار. كان لدى وقت فراغ طويل في البيت لم أكن اعرف ما افعل به. فكرت في تعلم الخياطة أو ما أشبه ذلك. كانت إحدى جاراتي تجيد الخياطة وكنت اجلس بجانبها انظر إليها حتى تعلمت منها الخياطة ثم استدنت بعض المال واشتريت ماكينة خياطة وبدأت أحيك الملابس لأسرتي وكنت افصل وأخيط بنطلونات وملابس لبناتي وأخواتي وكانوا يدفعون لي عندما أجهز لهم ملابس".

"بعد فترة قالت لي إحدى أخواتي "يجب أن نتعلم".. كانت تقرأ القرآن لكنها كانت تريد أن تتعلم أكثر وبدأت أفكر "نعم لماذا لا أعود للمدرسة، لدى من الوقت ما يكفي لذلك" سألت حواء عما تعنيه بقولها "لدى وقت" أليس لديها طفلين؟ ألا يعتبر رعايتهما عملا كافيا؟ لكنها أجابت "لا، لم أكن أنفق كل وقتي في رعاية الطفلين لأنني كنت انهي عملي في البيت سريعا، لذلك التحقنا سويا بفصل لمحو الأمية[123] في جمعية المرأة اليمنية[124]. في البداية لم نكن نحضر الدروس في المدرسة، كنا نذاكر في بيوتنا استعدادا للامتحان وادينا امتحان الصف الرابع والخامس بهذه الطريقة لكننا حضرنا دروس الصف السادس في مدرسة الجمعية. في بعض الأحيان كنت اصطحب الأطفال معي إلى المدرسة وفي بعض الأحيان اتركهم في البيت، كانوا ينامون بعد الظهر واتركهم نائمين من الرابعة حتى السادسة مساء[125] وإذا رفضوا النوم اصطحبهم معي إلى المدرسة". وماذا عن زوجها، وهل وافق على ذلك؟ تجيب حواء "عندما اتصل احمد من السعودية سألته عما إذا كان موافقا على ذهابي للمدرسة فأذن لي، لكنني لم أكن لأذهب إلى المدرسة إذا كان احمد مقيما معنا" سألتها ولماذا؟ ألم يكن احمد سيوافق إذا كان مقيما معها؟ تقول حواء "لا الأمر ليس كذلك، إذا كان مقيما معنا كان العمل المنزلي سيصبح أكثر مما يسمح بالذهاب إلى المدرسة. لقد تمكنت من الذهاب إلى المدرسة لأنه لم يكن موجودا معنا"، وماذا عن عائلتها ألم يعترضوا؟ "لا لم يقولوا شيئا، أنا متزوجة وطالما وافق زوجي فليس لأحد أن يتدخل"

بعد حصولها على الشهادة الابتدائية سجلت حواء في معهد المعلمين لتصبح معلمة بعد إكمال دراستها. "بعد تسجيلي في المعهد[126] أخذتني الأبله[127] نادية مديرة المعهد جانبا "قالت لي انظري يا حواء ماذا لو تلقيت تدريبا في الإرشاد الصحي" فقلت لها لكنني سجلت الآن للدراسة لخمس سنوات في معهد المعلمين؟ قالت لي "يمكنك أن تكملي التدريب الصحي والاستفادة منه لتطوير معارفك في الصحة ثم تعودين للدراسة في معهد المعلمين." فكرت فيها لبعض الوقت ووافقت، يمكنني أن استفيد كثيرا من التدريب الصحي وهو يستغرق عاما واحدا ويمكنني أن أعود بعدها لمعهد المعلمين، الدراسة لمدة خمس سنوات طويلة وبعدها قد لا أجد فرصة للتدريب الصحي ولذلك قررت أن اقبل التدريب الصحي.

قبل التسجيل ناقشت الفكرة مع احمد الذي كان معنا تلك الأيام ووافق على الفكرة لكنني قررت أن أناقش أهلي أيضا حتى لا يقولوا فيما بعد إنها لم تتشاور معنا وإنها تفعل ما يعجبها دون أن تكترث بنا، تعرفين ماذا قلت لوالدي؟ أنا سأدرس فقط لكنني لن اعمل بعد إتمام الدراسة لأنني كنت اعرف انهم لن يوافقوا، أقنعتهم بأن تعلم الرعاية الصحية سيفيد الأسرة كلها لأنني سأستطيع أن احقن مريضا بحقنة أو أساعد امرأة على الولادة ولابد أن يكون لأحد أفراد الأسرة خلفية ما عن الصحة فاقتنعوا أخيرا. هذه هي الطريقة التي توصلت بها إلى الالتحاق بالتدريب الصحي، وبعد انتهاء التدريب عملت في المركز الصحي."

سألت حواء عما إذا كانت قد فكرت من قبل في العمل الصحي " لم يدر ذلك بخلدي أبدا من قبل" أجابت قائلة وأضافت "كنت أفكر فقط في معهد المعلمين منذ أن حصلت على الشهادة الابتدائية، كنت اعرف أن أهلي لن يسمحوا لي بالعمل في الحقل الصحي، انهم لا يرغبون في ذلك، في ذلك الوقت لم يكن مقبولا أن تعمل امرأة في مجال الصحة" سألتها لماذا؟ فأوضحت قائلة "سأخبرك لماذا، لأن المرأة يجب أن تبقى في المستشفى وتمضى الليل هناك مع الممرضين الرجال والأطباء والمرضى الذين يجلسون في كل مكان في المستشفى داخل الغرف وخارجها." وما هو أساس هذه الفكرة عن العمل في المستشفى؟ تجيب حواء "كان الناس يرون بأنفسهم ما يحدث في المستشفى، مثلا عندما يأتي شخص بصحبة مريض إلى المستشفى يمكنه أن يقضى الليل هنالك مع المريض، عندما كانت أختي مريضة في المستشفى كان زوجها يحضر لها العشاء[128] هناك وفى بعض الأحيان كان يرى الممرضين والممرضات يجلسون سويا ويستمعون للموسيقى ويقول الناس إذا أصبحت ابنتي ممرضة فإنها ستصبح مثل هؤلاء، قليل جدا من الأسر غير المتشددة كانت تسمح بذلك."

بسبب من هذه المواقف والأفكار السلبية عن العمل في الرعاية الصحية كان على حواء أن تخفى عملها من أسرتها. "كان آخي يدرس في روسيا[129] وعندما عاد وسمع عما افعل قال لي ماذا تفعلين؟ هل تعملين في المجال الصحي (صحية)؟ كذبت عليه وقلت له أنني لن اعمل وقد تكرر ذلك عدة مرات في إجازاته التالية لليمن وكان على أن أتوقف عن العمل والبقاء في البيت طوال فترة بقائه في الحديدة وأعود للعمل بعد أن يغادرها" لكن بينما كان شقيقها معارضا لعملها كان زوج حواء موافقا عليه؟ "نعم زوجي يعرفني ويثق بي" تؤكد حواء.

وتضيف "كانت المشاكل تحدث عندما تكون أنشطة التدريب في مكان آخر أو إذا تحتم على السفر لمدينة أخرى، عندها لا يسمح لي احمد، انه رجل بسيط لكنه يتأثر بكلام الآخرين ذات مرة أخبرته أن على أن اذهب لدورة تدريبية في ذمار فوافق على ذلك وذهبت لكن عندما عدت حدثت بعض المشاكل مع أسرتي، أثناء غيابي في ذمار تحدثت أسرتي مع احمد وقالوا له كيف تسمح لها بالذهاب إلى ذمار؟ الست رجلا؟ فأجابهم بأن هذه هي رغبتها فأجابه أبى قائلا إذا كنت ستسمح لها بالذهاب إلى ذمار اذهب معها إلى هناك واستأجر منزلا للبقاء بقربها لا تدعها تذهب بمفردها!! منذ ذلك الوقت لم يعد احمد يسمح لي بالعمل بعد الظهر لقد قال لي انتهى الأمر وكفى لن تعملي بعد الظهر فعائلتك لا توافق على عملك بعد الظهر وهم غاضبون ويقولون لي إذا كنت لا تستطيع أن تكسب ما يعول زوجتك أعدها لنا وسنقوم نحن بذلك. ونجم عن ذلك أن منعت من العمل بعد الظهر لفترة طويلة.

شددت حواء على أن الدخل الذي كانت تحصل عليه لم يكن السبب الرئيسي على حرصها على العمل خاصة خلال السنوات الأولى من العمل "بالنسبة لي كان المهم هو أنني قد درست وحصلت على شهادة ووجدت عملا لم أكن أفكر فيما يمكن أن يدره على العمل من دخل لكنني كنت سعيدة عندما بدأت أكسب راتباً شهرياً." سألت حواء عما كانت تفعله براتبها قالت "لا شيء كنت أنفقه على بيتي إضافة إلى المبالغ التي كان يرسلها أحمد من السعودية كما اشتريت بعض الحلي الذهبية وكنت مشتركة في صندوق للتوفير "هكبة" مع زميلاتي كنا نضع جزءاً من مرتبنا في هذا الصندوق وندفعه بالكامل لواحدة منا كل شهر لتشتري بها شيئاً غالياً". بعد عدة سنوات عاد أحمد ليستقر في اليمن نهائياً[130] وعمل لوقت قصير موظفاً في الجيش لكنه ترك العمل لتدهور نظره. بعد ذلك عمل أحمد كاتباً للخطابات والعرائض أمام المؤسسات الحكومية[131]. في السنوات التالية أصبح دخل حواء مهماً في الإنفاق على الأسرة، وتوضح حواء ذلك قائلة "في البداية كان الوضع مختلفاً لم يكن علينا أن ندفع إيجارا للشقة التي كنا نعيش فيها لأنها ملك لأختي وكان بوسعي أن أشتري الذهب بمرتبي أو أية أشياء أخرى وأن أدفع منها مساهمات سخية في المناسبات الاجتماعية مثل الولادة[132] لكن في مرحلة معينة كان علينا أن ندفع إيجاراً وهذا هو السبب الذي دعانا للانتقال إلى قطعة الأرض هذه التي أصبحت ملكنا الآن وإنني أحاول أن أوفر بعض مما أكسب الآن لبناء البيت ، إننا نعيش على المال الذي يكسبه أحمد الآن ونستخدم كل دخلي لبناء منزلنا"

عملت حواء كمرشدة لعدة سنوات وعندما اقترحت إدارة المشروع تعيين بعض المرشدات كمسؤولات عيادات وتدريب البعض الآخر كقابلات "اخترت أن يتم ترقيتي لقابلة لأنني كنت أعرف أن أحمد لن يوافق على أن أعمل مسؤولة عيادة لقد ناقشت الأمر معه وقال لي إنني لا أريدك أن تصبحي مسئولة عيادة لأن هذا العمل يستدعي أن تقابلي الرجال وأن تتحدثي معهم والناس دائماً يريدون أن يتحدثوا مع مسئول العيادة وأن يحصلوا منه على الأوراق وأنا لا أريد ذلك من الأفضل أن تتعلمي التوليد ليقتصر عملك على النساء وقد وافقت على ذلك وأخبرت مدير المشروع برغبتي. كانت الفكرة هي أن أتعلم التوليد في معهد التدريب الصحي في الحديدة لكنهم في المعهد أصروا على أن أدرس لثلاث سنوات للحصول على شهادة القابلة بالرغم من أنني كنت قد درست الإرشاد والتثقيف الصحي لمدة عام كامل كمرشدة كما اشترطوا حصول المرشدة على الشهادة الإعدادية للانضمام للدورة التدريبية للقابلات" مما يعني ثلاث سنوات من الدراسة لحواء لكنها لم تستسلم وأكملت سنوات الدراسة الإعدادية في عام واحد وحصلت على الشهادة الإعدادية لكن المفاوضات مع معهد التدريب الصحي لم تسفر عن نتيجة ولم تحصل حواء على فرصة للتدريب كقابلة إلا عام 1995 وفي معهد التدريب الصحي بتعز على بعد ثلاث ساعات بالسيارة من الحديدة لكن احمد لم يوافق لان تعز بعيدة ولا يمكن أن يسمح لزوجته بالابتعاد عن الأسرة لثلاث سنوات.

في ذلك الوقت قبلت حواء عرضاً بأن تتولى المسئولية عن عيادة لرعاية رعاية الطفولة والأمومة في واحدة من المراكز الثلاثة الرئيسية بالحديدة لكن ماذا كان موقف أحمد؟ "لقد تحدثت إليه وقلت له انظر يا أحمد لقد قلت لي من قبل أن مسئولات العيادات يقابلون الرجال لكن مسئولات العيادة العاملات الآن مثل منى ورهام لا يقابلون الرجال، هذا صحيح إنهن لا يذهبن إلى أماكن أخرى ويبقين دائما في المركز الصحي وكل عملهن يظل هناك ويوفر العاملون في المشروع كل ما يحتجن إليه وقلت له الآن حرمتني من تولي هذه المسئولية ولم أتدرب على التوليد ولم أصبح مسئولة عيادة بالرغم من أنني كنت أفضل من الأخريات وقلت له تعال إلى المركز وشاهده بنفسك، وعندما جاء وأدخلته إلى العيادة وإلى المكتب وقلت له أنظر إليه!!

أنهن كلهن نساء شابات وقدمت له المرشدات الموجودات بدلاً من الطواف به في كل المركز بعد ذلك أوضحت له أن هنالك أيضاً قسم للصحة العلاجية في المركز وأن المركز لا يقتصر على الصحة الوقائية وخدمات صحة الأمومة كما كان في السابق. في قسم الصحة العلاجية يعمل طبيب وهنالك مختبر لكن القسمين منفصلين عن بعضهما تماماً والطبيب مسئول عن الصحة العلاجية فيما أتولى أنا المسئولية عن قسم الصحة الوقائية" بهذه الطريقة حاولت حواء إقناع أحمد بأن العمل الذي تؤديه عمل محترم لأن هنالك فصل تام بين النساء والرجال بالرغم من أنهم يعملون في نفس المركز.

سألت حواء عما إذا كان أباها وأخاها لا يزالان يعترضان على عملها أجابت حواء قائلة "انظري، لم يكن أبي هو الذي يتسبب في المشاكل انه شخص آخر في عائلتي انه زوج أختي الذي كان يحتل منصباً محترماً ويردد دائماً كيف لحواء أن تمارس عملاً مثل هذا. كما كانت أختي تقول لي في بعض الأحيان أن عملي ليس جيداً وأنه ليس من الضروري أن أعمل وقد أثرا على أبي. لكنني قلت لأبي صحيح انك قلت لي أنني يمكنني أن أخذ منك ما أحتاج من المال وأنت تعرف أن أحمد ليس مثلكم، أنت وأخوتي أغنياء وكل الأسرة غنية لكن ظروف أحمد مختلفة وحظه كان سيئاً ، ما شاء الله عندما كان أخوتي صغاراً كان أحمد جندياً في الجيش وكل أخوتي لديهم وظائف مرموقة الآن، أحدهم يعمل في قيادة الأركان العامة للجيش والآخر مهندس والثالث مدير مالي وأحمد كما هو، هل يمكنني أن أبقى في البيت وأطلب منكم المال كل يوم، أنا متزوجة ولدي أطفال أرجوكم لا تجعلوا حياتي صعبة، بوسعي أن أقسم وقتي بين أسرتي وعملي أرجوكم لا تتدخلوا في شئوني" فوافق والدي وقال لي لن أتدخل في شأنك بعد الآن افعلي ما تشائين وما ترينه صحيحاً "حدث ذلك قبل عامين ومنذ ذلك الوقت لم تحدث أية مشاكل".

بالرغم من أن أحمد يشكو أحياناً من أن حواء تعمل طويلاً فقد تمكنت هي من أن تجعله سعيداً. "في بعض الأحيان أبقى في المنزل بعد ظهر الخميس ونقضي وقتاً طيباً سوياً" وهو يعلم أن أسرته لا يمكن أن تستغني عن مرتبها الذي يستخدم لإكمال بناء المنزل. يضاف إلى ذلك أن كل الأطفال يذهبون إلى المدرسة ومصاريف المدارس أصبحت باهظة، لقد أكملت حكمة كبرى بنات حواء المرحلة الثانوية وهي تريد أن تدرس الطب وتقول حواء " آمل أن تتمكن كل بناتي من إنهاء دراستهن وألا يواجهن المشاكل التي واجهتها أما فيما يتعلق بالزواج فسنحاول أن نجد زوجاً مناسباً لحكمة شخصاً تحبه وقد خطبناها الآن لابن عمها وفقاً للتقاليد العائلية لكنها لن تتزوج مبكراً وإذا قالت إنها لا تريد هذا الرجل فسنفسخ الخطبة".

عند إجراء هذه المقابلة عام 1997 كانت حواء قد التحقت بدورة تدريبية لترقية المرشدات إلى قابلات مجتمع. بعد إكمال تدريبها عينت مسئولة عن خدمات رعاية الطفولة والأمومة في مركز صحي التحرير وهو واحد من أكبر وأقدم المراكز في قلب مدينة الحديدة. في عام 1998 توقف أحمد عن العمل بعد تدهور نظره بشدة ومنذ ذلك الوقت تولت حواء الإنفاق على أسرتها بمفردها وهي تعمل صباحاً كمسئولة عن عيادة خدمات رعاية الطفولة والأمومة في المركز الصحي وتعمل كمسجلة مرضى في نفس العيادة مساءاً[133] للحصول على دخل إضافي.

عندما زرت حواء وعائلتها في أبريل عام 2002 كان أحمد قد فقد نظره نهائياً وكانت حواء لا تزال تعمل في قسم رعاية الطفولة والأمومة في مركز التحرير الصحي وكانوا قد أنجبوا طفلة أخرى في سبتمبر 2000. وأخبرتني حواء أن أقاربها قد قبلوا بحياتها المهنية في أخر الأمر بل وأخذوا في إظهار تقديرهم وإعجابهم بعملها الذي تنفق منه على زوجها وأطفالها. بدون راتبها كانت أسرتها ستضيع، فقد فسخت خطوبة ابنتها الكبرى بعد عام ونصف لأن حكمة لم تنسجم مع ابن عمها الذي كان قليل الاهتمام بالعمل والدراسة بينما كانت هي طالبة مجتهدة وكانت تدرس في ذلك الوقت في كلية التمريض في الحديدة وبالرغم من أنها كانت تفضل الالتحاق بكلية الطب في صنعاء لتصبح طبيبة إلا أن أحمد لم يوافق على أن تذهب ابنته إلى صنعاء للدراسة حتى ولو كان هنالك أقارب سيهتمون بها، لم يرغب أحمد في أن تغادر حكمة منزل والديها قبل أن تتزوج. لقد تغيرت الحدود لكن الأيديولوجيات الجندرية لم تتغير تماما.

ℹ️

عن المؤلفة

الدكتورة مارينا دي ريخت هي باحثة وأنثروبولوجية هولندية متخصصة في قضايا النوع الاجتماعي، والعمل، والهجرة في الشرق الأوسط والقرن الإفريقي، مع تركيز خاص وعميق على اليمن. بدأت علاقتها باليمن في أوائل التسعينيات، حيث عملت لسنوات في مشاريع تنموية بمدينة الحديدة، وهو ما أتاح لها فهماً ميدانياً وشخصياً للسياق الاجتماعي والثقافي.لأغراض التحليل.
*

مراجع وهوامش

[122] في الفصل التاسع سأتحدث مفصلا عن هجرة اليمنيين للسعودية والخليج.

[123] تنظم فصول محو الأمية للرجال والنساء فوق الخامسة عشر في المناطق الريفية والحضرية على حد سواء. ويمكن للذين لم يحصلوا على التعليم الأساسي أن يحصلوا على شهادة مدرسية من فصول محو الأمية لان المناهج الدراسية هي مناهج المدارس الابتدائية نفسها لكن مدارس محو الأمية تدرس مناهج عامين من التعليم الأساسي في سنة واحدة وفي ساعتين فقط من الدراسة في اليوم وبالتالي يمكن الحصول على الشهادة الابتدائية في ثلاثة سنوات بدلا عن ست في المدارس.

[124] جمعية المرأة اليمنية أهم تنظيم نسائي في اليمن الشمالية وقد تم تأسيسها رسميا عام 1965 وهي تنظم فصول محو الأمية وتعليم الخياطة وتعليم الطباعة على الآلة الكاتبة والحرف اليدوية للنساء في المدن. بعد الوحدة اليمنية توحد مع اتحاد المرأة اليمنية الجنوبي وكونا تنظيما نسائيا يمنيا موحدا (بدران 1998: 505).

[125] الأمهات في اليمن كثيرا ما يتركن أطفالهن في البيت مع والدهم أو مع أحد الأقارب أو حتى بمفردهم.

[126] تستغرق الدراسة في معاهد المعلمين خمس سنوات بعد إكمال المرحلة الابتدائية.

[127] ابله كلمة تركية تعني الأخت الأكبر وتستخدم لإظهار الاحترام للنساء عامة والمدرسات بشكل خاص.

[128] أهل المرضى يجلبون الطعام لمرضاهم في المستشفيات العامة والخاصة في اليمن.

[129] كان من الشائع أن يتلقى الطلاب من اليمنيين الشمالية والجنوبية دراستهم الجامعية في روسيا ودول أوربا الشرقية

[130] بانخفاض أسعار النفط في النصف الثاني من الثمانينيات بدأ العديد من المغتربين اليمنيين في السعودية والخليج بالعودة إلى بلادهم cf. Carapico and Myntti 1991: 25; ESCWA 1993: 110-111).

[131] لارتفاع نسبة الأمية في اليمن يعمل الكثير من اليمنيين في كتابة الرسائل وملء الاستمارات مقابل أجر أمام المؤسسات الحكومية.

[132] من عادات اليمن دفع مبالغ من المال للأم التي تنجب طفلاً، لوصف مفصل لهذه الزيارات الخاصة للأمهات وأطفالهن حديثي الولادة راجع Dorsky (1986: 158-164.

[133] منذ عام 1995 تقدم المراكز الصحية في الحديدة خدماتها العلاجية بعد الظهر أيضاً بتمويل من مجموعة من رجال الأعمال في الحديدة.

الكلمات الدلالية