صنعاء 19C امطار خفيفة

حميدتي.. رحلة الجنرال من الناقة إلى الدبابة

حميدتي.. رحلة الجنرال من الناقة إلى الدبابة
محمد حمدان دقلو - حميدتي

محمد حمدان دقلو أو كما يحب أن يناديه الناس بحميميةٍ قاتلة: حميدتي. اسم يبدو تصغيرًا، لكنه في الحقيقة تضخيم ساخر لتاريخٍ يفيض بالدم والذهب والخيانات الصغيرة التي صنعت أمة متعبة.

وُلد حميدتي في دارفور، في بيتٍ من الشَّعر لا الشِّعر الذي يُكتب، بل الذي يُنصب فوق الرمال. كان يرعى الإبل قبل أن يرعى المليشيات، يتقن لغة الصحراء أكثر من لغة الكتب، ويعرف كيف يقرأ الوجوه كما تُقرأ الرياح. هناك في المدى الذي لا تبلغه الدولة، تعلم أن القانون هو من يملك السلاح، وأن "الولاء" هو العملة التي لا تفقد قيمتها مهما انهار الاقتصاد.
لكن الصحراء وحدها لا تصنع الجنرالات، بل الحروب.. حين اشتعلت دارفور، وبدأت الجنجويد في رسم خريطة النار، كان حميدتي يختبر صوته في جوقة القتلة، حتى اكتشف أنه يغني أفضل منهم. صعد بسرعة قياسية في بورصة الدم، وانتقل من قائد قبلي إلى رجل دولة دون أن يمر بمحطة المدرسة.
وعندما قررت الخرطوم أن تعيد طلاء الجنجويد بلون رسمي، أطلقت عليهم اسمًا أنيقًا "قوات الدعم السريع". وهكذا تحولت الفوضى إلى مؤسسة، والمليشيا إلى ذراعٍ من الدولة، والدولة نفسها إلى مزحة طويلة.
في عهد البشير كانت العلاقة بين الرجلين تشبه رقصة مصالح على حافة الجريمة. البشير يحتاج إلى سيفٍ لا يسأله عن القانون، وحميدتي يحتاج إلى غطاءٍ لا يسأله عن الضمير. كان كل منهما يتظاهر بأنه يستخدم الآخر، بينما الحقيقة أن كليهما كان يستخدم السودان.
ولأن البقاء للأكثر دهاء فقد سقط البشير وبقي الراعي. من يصدق؟ راعٍ يخرج من دارفور ليصبح نائب رئيس مجلس سيادي في بلدٍ يفترض أنه جمهوري، لكن هذا السودان حيث الواقعية ليست نقيض الخيال، بل مرآته الساخرة.
ثم جاءت 2019 فانهارت الخيام القديمة وبدأت لعبة جديدة. في الظاهر حميدتي كان رجل الدولة، في الباطن كان يحتفظ بدولته الخاصة داخل الدولة، جيش ومال وعلاقات، وتحالفات تمتد من الصحراء إلى الخليج. الإمارات تُصافحه بالذهب، والغرب ينظر إليه كخطرٍ قابل للاستثمار، والجيران يخافونه أكثر مما يكرهون خصومهم.
هكذا صار الرجل الذي بدأ حياته راعيًا، يتحكم في خيوط السياسة والميليشيا والاقتصاد، كأن التاريخ قرر أن يختبر صبر الشعب السوداني على النكتة. لكن النكتة كما تعرف دارفور جيدًا لها ثمن.
قواته التي كانت تُسمى دعمًا سريعًا، صارت تجسيداً بطيئاً للمأساة، حرق واغتصاب ومجازر وقرى تُباد وكأنها مذكرات لا تستحق الأرشفة. من الجنجويد إلى الدعم السريع، إلى الحرب المفتوحة مع الجيش في 2023، لم يتغير شيء سوى الاسم والعلم. المأساة ذاتها، فقط ببيانٍ جديد في نشرات الأخبار.
وفي الوقت الذي كان الناس يفرون من الخرطوم إلى المجهول، كان حميدتي يتحدث عن الديمقراطية. مشهدٌ يصلح لمسرح عبثي كتبه بيكيت بعد يومٍ دموي في دارفور. ومع ذلك لا يمكن إنكار أن الرجل بارع في التمثيل. حين يقتل يتحدث عن السلام، وحين ينهب يتحدث عن العدالة، وحين يحرق القرى يرفع شعار "السودان الجديد".
من السخرية أن الرجل الذي لا يقرأ الصحف صار صانع عناوينها، والذي لم يعرف المدرسة صار محاضرًا في علم السلطة.
حميدتي ليس مجرد شخص إنه خلاصة ما يحدث عندما تترك الدولة صحراءها بلا معلم، وتسمح للقبيلة أن تكتب التاريخ بدلًا من أن ترويه. هو درسٌ حي في أن الفوضى حين تُمنح رتبة رسمية تتحول إلى نظام، وأن الخراب حين يُطبع بختم الدولة يصبح قانونًا.
الآن بينما تتحول دارفور إلى مقبرة جماعية تحت ضوء النهار، يجلس حميدتي في مكانٍ ما يتحدث عن الإصلاح، كأن الرجل لا علاقة له بجثثٍ ما زالت ساخنة. العالم يصغي باهتمام، تلك العادة القديمة في الاستماع إلى القتلة حين يتحدثون بلغة السياسة.
لا أحد يعرف ما إذا كان حميدتي سيصبح رئيسًا أو مطاردًا جديدًا في نشرات الأخبار الدولية، لكن المؤكد أن قصته تصلح لدرسٍ في البلاغة، يشرح كيف يتحول القاتل إلى إصلاحي، والمجرم إلى مفكر، والخراب إلى وطن؟ إنها عبقرية سودانية بامتياز. كوميديا لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد.

الكلمات الدلالية