وطنٌ يئن ومستقبل بلا ملامح.. لاضوء في نهاية النفق
وسط هذا الركام المتصاعد من الكراهية بين اليمنيين، والضجيج المرتفع حول صكوك الوطنية التي توزعها القيادات السياسية على مواقفها وتحالفاتها، وفي لحظة وعي قاسية، نكتشف أننا جميعا كنا نركض في الاتجاه الخطأ، أننا خضنا حرب مدمرة لأكثر من 10 سنوات؛ ولايوجد فيها من يبحث عن الوطن، كلهم يبحثون عن تصفية الاحقاد، والانتقام والانتصار على خصومهم..
كلهم يبحثون عن حصة من الكعكة، أو مقعد في سلطة غائبة، تحت مسميات الشرعية والقضية والوطنية والتحرير والمقاومة والولاية وغيرها..
منذ أكثر من عشر سنوات، لم تُطلق رصاصة واحدة نحو استعادة الهوية الوطنية، واستعادة الدولة المستقلة ذات السيادة والكيان العالمي، كل الرصاص كانت تطلق نحو صدور اليمنيين بمختلف جبهاتهم ومناطقهم ومذاهبهم وتوجهاتهم الحزبية والفكرية..
الجبهات العسكرية على الأرض تخمد حينا وتشتعل حينا، أما جبهات الاحقاد والشتائم والسب والبذاءة والانحدار في مواقع التواصل الاجتماعي فلا تنطفئ أبدا..
صارت المعركة على ترندات الفيسبوك والتويتر أهم من معركة استعادة الدولة، وصار الولاء للمناطق والولاءات أسبق من الولاء لليمن الذي يتهاوىٰ في صمت موجع..
اليمن اليوم لايعيش فقط انقسام سياسي مابين حاكم ومعارضة أو متمرد وشرعي، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، وصلنا تفتيت المفتّت، وتدمير المدمر، وشرذمة البلاد، وأصبحت الكيانات العسكرية والجهوية والمناطقية والمليشيات المسلحة تتناسل بشكل مخيف، مدعومة من هذا الطرف الخارجي أو ذاك، وأصبحت القيادات في كل الاطراف تنظر للحرب على انها مشروع استثماري طويل الأمد..
ضاعت الدولة اليمنية وصارت سيادتنا قصاصة ورق في يد هذا وذاك، يوقّعونها كيفما شاؤوا ويُعلّقونها متى أرادوا، بعد ان كنا نرى انفسنا ملوك الارض وتبابعة العالم وأصل العرب وفصل الخطاب..
ضاعت هيبة الدولة، وذابت الشخصية اليمنية تحت رماد الانقسام، فصرنا للأسف عبء على جيراننا..
كنا نُفاخر بمآثرنا وقيمنا وأخلاقنا واعرافنا، ونُعلّم غيرنا معنى الرجولة والشهامة والكرم، فإذا بنا اليوم نتسوّل مكان في خارطة نسينا ملامحها، وتحوّل اليمن من كيان له حضور دولي وهيبة اقليمية إلى ملفٍّ ثقيل في أدراج الآخرين توزع فيها مرتبات الإعاشة ومخصصات الارتزاق بأسماء منمقة كتسمية الخمور بالمشروبات الروحية، وصار الوطن ساحة لتجارب الآخرين، وملعب تتقافز فيه أدوات الحرب ومصالح اللاعبين..
ولأن الإنصاف شيمة الرجال، لابد أن نذكر الحقيقة كما هي، لا كما يريدها كل طرف أن تُروى من وجهة نظره، نقول ان الرئيس علي عبدالله صالح مهما اختلفنا معه أو عليه، هو الوحيد من بين كل أطراف الصراع؛ الذي حاول أن يتصرّف كرجل دولة وبعقلية سياسية تقدم مصلحة الدولة والشعب على الفرد والحزب والتنظيم، في لحظة تخلّى فيها الجميع عن الدولة واصطفوا للحرب انتقاما من الخصم، او طمعا في مكاسب المرحلة..
في عام 2015 قدّم مبادرة سلام للتحالف العربي من عشر نقاط، ثم في العام الذي يليه قدم مبادرة أخرى من تسع عشرة نقطة، دعا فيها التحالف إلى طاولة مفاوضات تُنهي الحرب وتعيد لليمنيين دولتهم وفق خطة سلام ترضي جميع الأطراف كما وصفها الدكتور ابوبكر القربي..
بل بعث برسالة خاصة إلى السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله، يرجوه التدخّل لإيقاف النزيف وعودة السلام..
قد يقول قائل ان صالح أخطأ كثيرا لاسبما بتحالفه الاخير..
اتفق مع هذا القول، لكني أعتقد ان خطأه لم يكن مؤدلج، وأنه كان تحالف الضرورة التكتيكي كتحالفاته السياسية السابقة، لكن ذكاءه وحساباته خانته في النهاية، وجل من لايُخطئ، ومع ذلك حاول أن يتحدث بلغة الدولة حين صمت الجميع، وحين كان صوت السياسة أضعف من صخب البنادق، والنوايا معلّقة في فضاء المصالح الضيقة والأجندات العابرة، فقدم تلك المبادرات والاتصالات المعلنة وغير المعلنة..
أما بقية الأطراف، فكل مارأيناه منهم؛ إضافة إلى تبادل الشتائم والبذاءات ضد بعضهم، كانت عبارة عن مؤتمرات ومفاوضات ومباحثات وسفريات ترفيهية واستجمامية لكوادرهم إلى جنيف وبعض الدول الأوروبية والعربية، لم تقدم غير لجان انتقائية لتبادل المعتقلين فيما بينهم، وكل طرف يبحث ويقدم أسماء من ينتمي إليه ويحمل فكره فقط، بينما آلاف اليمنيين البسطاء تعفنوا وماتوا في السجون والمعتقلات (اليمنية) ولم يطالب بهم أحد..!!
خسارتنا الكبرى ليست في خراب المدن، ولا في تهالك الاقتصاد، بل في ضياع البوصلة الوطنية، وفي انطفاء الإحساس الجمعي بأن لنا وطن يستحق أن نحزن لأجله.. الكل يتحدث باسم اليمن، لكن لا أحد يعمل له.. الكل يرفع راية السلام، لكنهم جميعا يخافون منه، لأن السلام يعني أن تعود الدولة، وأن تتعرّى المكاسب الزائفة، وأن يُستبدل صخب السلاح بصوت الضمير..