صنعاء 19C امطار خفيفة

عصفورة من الشرق

على خطى عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، أعادت عصفورة الشرق قصتها بطريقتها التي تتماشى مع واقعها، حين وجدت نفسها، وهي سابحة في سماء الله، وقد دفعتها الرياح لتجد نفسها حائرة بنافذة الأمير. كان القلق والحيرة يسيطران على مشاعرها، وسؤال اللحظة يرن: والآن، ما العمل؟ وقد قادتك الأقدار من حيث لا تشائين لنافذة الأمير المدججة حراسةً وأسلحةً، بعد أن صوبوا نحوها العديد من أسلحة الدمار الشامل. انتابها خوف ورعب، ونتساءل: أين أنا يا ترى؟ وما تم بتاتًا إعلان حالة الطوارئ في سماء الله؟

فقد تركنا نحن عالم الطيور لباشوات ومشايخ الأرض، تركنا لهم الأرض وما بها، ولهم حق إدارتها بالكيفية التي يرغبون. وقلنا، كما كنا نحسب، إن السماء الفضاء لنا، ولنا حرية الإبحار كما نرى. لنا عالمنا، لنا مقاييسنا التي نرتب بها أمور مسيرة الحياة لعالم الطيور، بعيدًا عن المصادرة والاحتجاز والابتزاز، رشوةً وأسئلةً نفقد من خلالها آدميتنا، مع طرح الأسئلة القاتلة التي تنطلق من أفواه المحققين المدججين بالسلاح.
من أنت؟ أين بطاقة هويتك؟ لمن ولاي فخذ تنتسب؟ وسواها من أسئلة الامتهان، ولا ولن يخارجك من هكذا مصيدة إلا ما تحمله من عبوات، بنكنوت وذهب رنان يلمع، يعمي عيون من يسألونك. لتجدهم فجأة وقد انفرجت أساريرهم إن أنت لوحت مجرد تلويح بأن الجيوب مليئة بالذي يبحث عنه حمران العيون.
تأوهت العصفورة، وهي على وشك دس يدها الناعمة بكيس النقود. كيف تغير الحديث؟ وكيف غابت أسئلة غليظة لتسمع كلمات الإطراء والترحيب؟ مشهد أعادني لحادث كاد يتحول إلى كارثة دموية يومها، كما تروي العصفورة. أوقفت ثلة من الجند، ممن تبدو عليهم مظاهر التحفز للقتال والانتشار، حين اعتلوا سيارة النقل التي كانت حمولتها منتجات للبيع والشراء بأحد أسواق البلاد. لكن ما جرى كان أشبه بحملة نابليون لغزو روسيا. حينها أصابني الذعر، كما تقول العصفورة. حركت أجنحتي واعتليت السماء ثانية، وظللت أراقب ما يجري ويصير.
رأيت سائق الشاحنة رابط الجأش، لم تمسه ذرة من الخوف، يمازح هذا وذاك من أطقم الحراسة المتحفزين للقتال. لكن السائق الملعون أومأ لكيس تحت الكم، ليتبين للناظر حشوات من عملات ذات ألوان براقة خضراء تسر الناظرين. تغير المنظر، تبادل الحرس مع السائق لطيف الكلام، وفكرت كيف لي أن أغري حرس نافذة الأمير. ولم يكن بحسباني أن دنيا البشر باتت تعالج بأدوية الفساد، وليس بالعقل ولا بالنظام. صار الإنسان في أرض البني آدمين مجرد سوق لمن يستطيع أن يدفع الكثير. من لا يستطيع الطيران مثل عصافير السماء المالكة حريتها، فقد بات عبدًا لقوانين أسواق سوداء تحجب الرؤية لقوانين دولة غائبة، يصادرها كل ذي عقل مختل خفيف.
أدركت عصفورة الشرق الأمر، وتمالكت نفسها، وأسرعت بعيدًا بعيدًا عن نافذة الأمير بعدما غافلت حرس الأمير، وقالت تمازح الحراس: إلى اللقاء، يوم يعود ذو يزن يحرس الطريق.
استلطفني حديث العصفورة. صحيح هي لم تكن من الشرق كطائر توفيق الحكيم، عصفور من الشرق، بل كانت عصفورة من اليمن الفاقد الروح، ينازع بالرمق الأخير. أدركت حكمتها، وقلت: لعلها مثل زرقاء اليمامة، تشير إلى أن حالة اليمن مؤلمة؛ لأنها تفتقد لعقل، لعقول يتاح لها فتح أبواب وآفاق واسعة ونوافذ للحوار بدل الدمار والحرب الضروس. كما تفتح نوافذ وأبواب مغلقة إلى رحاب عقلنة الأمور بعقول تبسط عناوين الصراعات والاختلافات، بما يتيح للحوار الوصول إلى طريق المخارج والحلول، بعيدًا عن أجواء وخلق مناخات شحن تؤجج الخلافات وتصعدها وفق فقه الأولويات التي تاهت عن محرابها؛ صراعات المصالح واعتلاء الإناء الأوحد القابض والمسير والمسيطر لهودج الحلول.
فضاع الوطن شمالًا وجنوبًا، وقبل ذلك ضاع المواطن، بعد أن تمت عملية مبرمجة لتمزيق هويته، لينحرف الصراع نحو ميادين ليست لب مشكلة البلاد شمالًا وجنوبًا. لم تنسَ عصفورتنا البديعة أن تؤكد على مسألة على جانب من الأهمية القصوى، المتمثلة بما ينبغي على عنصري التحالف الضالعان من الرأس حتى أخمص القدم مع طرفي الصراع، ليكونا عونًا وجزءًا فاعلًا من هكذا صراع. لنا رجاء، وإن حدث مثل ذلك، فإنه سيشكل أداة ضاغطة على قوة الدفع التي تغذي قوة الدفع بصنعاء لدى الطرف المنقلب على الدولة، من قبل وبعد بدء حرب البسوس بأرض اليمن من فترة تجاوزت العقد من السنين. ذلك ما نأمله ونؤمل كثيرًا عليه.

الكلمات الدلالية