صنعاء 19C امطار خفيفة

البيت اليمني... مدرسة الحياة وأساس المجتمع

في حياة كل يمني، هناك مشهد لا يغيب: بيت صغير، تنبعث منه رائحة الخبز، وصوت الأم وهي تنادي أبناءها، وضوء خافت من مصباح معلق في سقف منخفض. مشهد يبدو بسيطًا، لكنه يحمل في طياته المعنى الكامل للحياة.

البيت في اليمن ليس مجرد مكان للسكن. إنه الذاكرة، والجذر، والمأوى الأول والأخير. والأسرة ليست فقط رابطة بيولوجية أو صيغة قانونية، بل هي حكاية متوارثة، تُروى في صمت الأمهات، وصبر الآباء، ومراوغة الحياة القاسية التي لا تمنع الإنسان من الابتسام رغم ما يعانيه بشكل يومي.
في مجتمعٍ مرّ وما زال يمرّ بمراحل صعبة من نزاعات وأزمات، تبقى الأسرة اليمنية واحدة من أقوى البُنى التي لم تتخلّ عن دورها. لقد حافظت على الحد الأدنى من التماسك حين تفكّكت أشياء كثيرة، وصمدت بصمتٍ حين صرخت كل الأصوات.
كم من أسرة يمنية واجهت الغياب؟ غياب الأب في جبهة، أو في بلاد الغربة. غياب الأم في زحمة الأعباء أو في بحثها عن لقمة كريمة. ومع ذلك، ظلّ الأبناء يجدون من يوقظهم للمدرسة، من يسأل عنهم، من يربّت على أكتافهم حين تثقل الحياة.
هذه ليست أمورًا بسيطة، بل هي مواقف يومية تصنع شخصية الإنسان. فالطفل الذي ينشأ في بيت يمنحه الأمان، حتى لو كان متواضعًا، سيخرج إلى مجتمعه بشيء من التوازن، من الثقة، من الاستعداد للتعايش. ومن هنا تبدأ أهمية الأسرة في بناء المجتمع.
لكن الأسرة اليمنية لا تعيش في فراغ. هي جزء من سياق اجتماعي وسياسي يضعها أحيانًا على الهامش، رغم أنها في القلب. نحن لا نرى غالبًا الجهد غير المرئي الذي تبذله الأم وهي تُقسّم القليل على الكثير، أو الأب الذي يعمل في أكثر من مهنة ليبقي بيته واقفًا.
وربما حان الوقت لأن نُعيد النظر في طريقة حديثنا عن الأسرة. لا بصفتها "رمزًا" فقط، بل كركيزة فعلية للتغيير. حين نقول إن التعليم في خطر، فكروا في الأم التي لا تستطيع قراءة واجبات ابنها. حين نقول إن العنف في المجتمع يتزايد، تذكروا أن كثيرًا من البيوت لم تعد تجد وقتًا للحوار. حين نُطالب بالتسامح، فلننظر أولًا إلى طريقة تعاملنا مع بعضنا داخل الجدران الأربعة.
الأسرة هي المكان الذي يتعلم فيه الطفل أن يختلف في الراي دون أن يكره، وأن يُعبّر دون أن يخاف، وأن يحب دون أن يُهان. فإذا أردنا مجتمعًا يحترم الآخر، ويعرف حدوده، ويُقدّر مسؤولياته، فلابد أن نبدأ من البيت، من تربية تنبني على القيم لا على الخوف، على الرحمة لا على القسوة.
اليوم، نحن بحاجة إلى دعم حقيقي للأسرة. ليس فقط عبر المساعدات، بل عبر السياسات الذكية، والتعليم التربوي الجاد، والإعلام المسؤول الذي يُظهر صورة الأسرة كما هي: مساحة حب وتناقض وصبر مستمر.
ولأن اليمن بلد مليء بالتنوّع، فإن لكل أسرة يمنية طريقتها، ولهجتها، وعاداتها. وهذا التنوع ليس تهديدًا، بل ثراء. فكما تتنوّع الأكلات والملابس والأغاني من محافظة لأخرى، كذلك تتنوع طرق الحب والتربية والتعامل داخل البيوت. وهذا ما يمنح المجتمع اليمني لونه الخاص، وقدرته على التماسك رغم الظروف.
لقد أثبتت الأسرة اليمنية، بما لا يدع مجالًا للشك، أنها حجر الأساس لهذا الوطن. وإنّ أي مشروع وطني حقيقي لا يمر من بوابة الأسرة، سيبقى ناقصًا، وربما هشًّا.
في ختام هذا التأمل، ليس من باب المجاز أن نقول إن اليمن يبدأ من البيت. بل هي حقيقة يجب أن نتعامل معها بجدية. فحين نحمي أسرنا، وننصت لاحتياجاتها، ونُعيد لها مكانتها، نكون قد خطونا أول خطوة نحو يمن جديد، لا يبدأ من السياسة ولا من الاقتصاد، بل من حضن أمّ، وصوت أب، وضحكة أخت وأخ، وأمانٍ يولد في قلب كل أسرة.

الكلمات الدلالية