الحقوق والحريات بين المبدأ والانتقائية
في السنوات الأخيرة، نشهد في اليمن كما في غيرها من البلدان العربية تزايدًا ملحوظًا في الحديث عن الحقوق والحريات. صفحات التواصل الاجتماعي تمتلئ بالمنشورات المتضامنة، والمنصات الإعلامية تنظم البرامج والحوارات التي تتناول هذا الملف الواسع والمعقد. وعلى الرغم من أن هذا الحراك يعدّ في جوهره ظاهرة إيجابية تعبّر عن وعي متنامٍ بضرورة الدفاع عن الكرامة الإنسانية وحرية الرأي والمعتقد والعيش الكريم، إلا أن ما يبعث على الأسف هو أن جزءًا غير قليل من هذا الاهتمام يبدو مشوبًا بالانتقائية والمصلحة، أكثر من كونه نابعًا من مبدأ أصيل وإيمان حقيقي بالعدالة والمساواة.
فالكثير من الأصوات التي ترفع شعار "الحقوق والحريات" لا تفعل ذلك انطلاقًا من قيم ثابتة، بل وفق مواقف ظرفية أو انتماءات فكرية وسياسية. بعضهم يتحدث بحماس عندما يكون المتضرر من تياره أو قريبًا من فكره، ويصمت تمامًا حين يكون الضحية من جهة أخرى. هذا التناقض يفرغ فكرة الحق من معناها الأخلاقي والإنساني، ويحولها إلى أداة للمناكفات والمزايدات لا أكثر.
حين نتأمل المشهد اليمني مثلًا، نجد أن الحقوق تُرفع كشعارات في المناسبات أو حين تخدم موقفًا سياسيًا معينًا، بينما الحقوق الحقيقية التي تمس حياة الناس اليومية تبقى منسية في الخلفية. نادرًا ما نسمع عن حملات تطالب بحقوق المعلمين الذين ينتظرون رواتبهم لأشهر وسنوات، أو عن مبادرات جادة تهتم بحق المريض في العلاج والسفر، أو بحق الطفل في الرعاية والحماية من التشرد ومن الاستغلال في الشوارع والأسواق والحروب. هذه الحقوق لا تثير ضجيجًا لأنها لا تجلب الشهرة ولا تُكسب صاحبها نفوذًا أو تعاطفًا سياسيًا.
كثير من مناشدات اليوم حول الحريات الفردية وحرية التعبير والعدالة الاجتماعية مشروعة ومهمة بلا شك، ولكن ما يجعلها موضع تساؤل هو غياب الاتساق في الخطاب الحقوقي ذاته. لا يمكن لمن يتحدث عن حرية الصحافة أن يصمت عن سجن معلم أو موظف لمجرد أنه طالب بحقه، ولا يمكن لمن ينادي بحرية المرأة أن يتجاهل الطفلة التي تُزوّج قسرًا أو تُستغل اقتصاديًا. فالحقوق لا تتجزأ، والعدالة لا يمكن أن تكون على مقاس المصلحة.
إنّ الحقوق والحريات في معناها الإنساني العام ليست حكرًا على فئة أو جهة، ولا تقبل التخصيص أو الانتقاء. فالحق إما أن يكون للجميع أو لا يكون لأحد. وحين تتحول الحقوق إلى أدوات في أيدي النخب أو السياسيين أو حتى بعض الناشطين الذين يبحثون عن الضوء، فإننا نخسر جوهر القضية نفسها، ونحوّلها إلى مجرد مادة للجدل أو وسيلة لتحقيق الوجاهة الاجتماعية والإعلامية.
الأدهى من ذلك أن بعض الأصوات التي تتحدث باسم الحقوق والحريات تمارس القمع الفكري بأسلوب آخر، إذ تستنكر ظلم طرف بينما تبرر قمع طرف آخر، وتُدين خطاب الكراهية حين يُوجَّه إليها لكنها لا تتردد في ممارسته على من يخالفها الرأي. بهذا السلوك المزدوج، يتحول الخطاب الحقوقي إلى خطاب متناقض يفقد صدقيته وتأثيره.
في اليمن اليوم، ومع كل ما تعيشه البلاد من حروب وانقسامات وأزمات معيشية خانقة، يصبح الحديث عن الحقوق والحريات أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، لكنه في الوقت ذاته يتطلب وعيًا حقيقيًا ومسؤولية أخلاقية عالية. لا يكفي أن نكتب منشورًا متحمسًا أو نطلق وسمًا على مواقع التواصل، بل علينا أن نعيد تعريف مفهوم "الحق" ذاته، وأن نضع الإنسان في مركزه لا الانتماء أو المصلحة.
الحق لا يعني فقط حرية التعبير أو النشاط السياسي، بل يشمل أيضًا حق التعليم والرعاية الصحية والسكن الكريم والعمل اللائق والعيش بكرامة. والحرية لا تقتصر على حرية الكلام، بل هي أيضًا حرية من الفقر والجهل والخوف. هذه المعاني الواسعة هي التي تمنح الخطاب الحقوقي مصداقيته وقوته، وتجعل منه مشروعًا وطنيًا جامعًا، لا ساحة للصراعات الضيقة.
ربما آن الأوان لأن نراجع أنفسنا جميعًا: كيف نتعامل مع مفهوم الحقوق؟ هل نطالب بها للجميع حقًا، أم فقط حين تمس من نحب؟ هل نرى في الدفاع عن الآخر المختلف واجبًا أخلاقيًا، أم ننتظر دوره في الظلم لنصمت؟
إن أول خطوة نحو مجتمع عادل وحر هي أن نتخلى عن الانتقائية، وأن نتبنى موقفًا مبدئيًا واحدًا: أن كل إنسان يستحق حقه كاملًا، بصرف النظر عن فكره أو دينه أو موقعه الاجتماعي. عندها فقط يمكن أن تتحول الشعارات إلى فعل، والمناشدات إلى واقع.
فالحق لا يُمنح، بل يُنتزع بالإيمان والوعي، والحرية لا تتحقق بالصوت العالي فقط، بل بالاتساق بين القول والفعل. وبينما تزدحم المنابر بالكلمات، تبقى الحقيقة البسيطة هي أن الحقوق التي لا تشمل الجميع لا معنى لها، وأن الحرية التي تُمنح للبعض دون الآخرين ليست حرية بل امتياز مؤقت.