الإخوان المسلمون.. البراغماتية تصلي في كل اتجاه
إذا أردت تعريف الإخوان المسلمين في جملة، فكن مستعدًا لجملة طويلة متعرجة تشبه متاهة سياسية تكتب نفسها بنفسها، بينما العالم يحاول أن يضعها في صندوق واحد. فالحركة ليست مجرد حزب ولا مجرد جماعة دعوية ولا مجرد تنظيم سياسي، بل كل ذلك وأكثر -أو أقل- حسب المزاج التاريخي لكل من يراقبها من الخارج.
حين قرر حسن البنا أن يصنع نسخة جديدة من الإسلام، مشروع حياة شاملًا يربط الدين بالسياسة والاجتماع، بدت الفكرة على الورق دعوية بريئة، لكنها سرعان ما أثبتت أنها آلة بقاء تاريخية، قادرة على إعادة اختراع نفسها مع كل انقلاب وكل حكم وكل موجة شعبية.
ما بدأ كمشروع دعوي أخلاقي تحول ببطء إلى آلة سياسية بارعة في التنكر، تتلو آيات التوبة في النهار، وتوقع التحالفات في الليل. لم يكن الإخوان جماعة، بل مزاجًا سياسيًا يتقن التبدل تبعًا للطقس، فإذا اشتدت رياح الثورة صاروا ثوارًا، وإذا صفا الجو في القصر صاروا وزراء.
في التاريخ لا توجد حركة أتقنت البراغماتية كما أتقنها الإخوان. فبينما انشغل الآخرون بالجدل العقائدي، كان الإخوان يصيغون صيغ البيعة الداخلية، ويهندسون الولاء بالمسطرة، كأنهم شركة تعمل في إنتاج الإيمان حسب الطلب.
هم أكثر التنظيمات قدرة على التحول دون أن يبدوا متحولين. في دولة ما هم حركة إصلاحية منضبطة. في أخرى جماعة مظلومة تنادي بالعدالة. وفي ثالثة حزب ديمقراطي يقدس الانتخابات مادامت نتيجتها مضمونة. لا يختلفون في الجوهر، فقط يبدلون القفازات.
لقد فهم الإخوان السياسة كما يفهم التجار مواسم السوق، لا خطًا مستقيمًا، بل دائرة مغلقة من الفرص. يبتسمون في وجه السلطان ثم يعارضونه بآية، ثم يفاوضونه بحديث. شعارهم غير المعلن "المرونة فضيلة حين تكون الغاية مقدسة". ولذلك لم يُهزموا تمامًا، لأن الهزيمة نفسها بالنسبة لهم مرحلة تدريب.
في عرفهم لا يوجد موقف ثابت، بل "توقيت مناسب"، ولا توجد عقيدة سياسية نهائية، بل "وسيلة مشروعة" لتحقيق الغاية. لذلك تجدهم قادرين على ارتداء عباءة الثورة كما يرتدون بدلة الدولة، وعلى مخاطبة الفقراء بلسان التقوى، والأثرياء بلسان الاستثمار في الآخرة.
المفارقة أن حركة تأسست على الدعوة الروحية والإصلاح الديني، لم تتوقف عن التورط في السياسة، كما لو أن التاريخ يختبر قدرتهم الدائمة على التأقلم مع كل نظام، ومع كل انقلاب، ومع كل موجة شعبية.
وحين تقارنهم بالحركات الأخرى تدرك أنهم لا يملكون فقط قدرة على البقاء، بل موهبة نادرة في تدوير الفشل حتى يصبح إنجازًا، وتحويل الهزيمة إلى "تجربة تربوية". لا لأنهم أقل إثارة للجدل، بل لأنهم أكثر دهاء في استخدام الرموز الدينية والسياسية معًا، بلا خجل، بلا توقف، وكأن السياسة والدين وجهان لعملة واحدة لا يفهم سرها إلا الإخوان.
لم يكونوا أبدًا ثوريين تمامًا ولا سلطويين خالصين، بل ذلك المزيج الغريب الذي يستطيع أن يحيي الملك بيده اليمنى، ويُخفي بيان الثورة في اليسرى. ينسحبون حين يشتد الضوء، ثم يعودون حين يمل التاريخ من البحث عنهم.
إنهم خلاصة قرنٍ من التجارب العربية مع فكرة "الدين السياسي"، لا إصلاح بلا سلطة، ولا سلطة بلا شرعية، ولا شرعية بلا شعار ديني يمكن رفعه وقت الحاجة.
وحين تسأل أحدهم: ما هدفكم؟ سيجيبك بعبارة صالحة لكل زمان: إقامة الدولة الإسلامية.. عبارة مطّاطة تكفي لتبرير كل شيء، من المشاركة في الحكم إلى الهروب منه، من المعارضة إلى التحالف، من الخطب الوعظية إلى الصفقات الخلفية.
الإخوان المسلمون لا يمكن فهمهم بميزان الخير والشر، لأنهم أذكى من أن يقفوا في صفٍ واحد. إنهم مثل ظلٍّ سياسي طويل يسبق الحاكم بخطوة، ويتأخر عنه بخطوتين، يمدّ يده لكل القوى، ثم يرفع سبابته إلى السماء حين يُسأل عن النوايا.
حركةٌ تشبه المرآة، تراها كما تريد أن تراها. وفي كل مرة تحاول أن تحدد موقفها، تكتشف أن الموقف ذاته كان مجرد انعكاس.
ليسوا جماعة دينية بقدر ما هم فلسفة للبقاء السياسي باسم الإيمان، مدرسة في البراغماتية التي جعلت من "التقية" علمًا حديثًا، ومن "النية الصالحة" تصريح عبور إلى كل العصور.
إنهم معمل متكامل لإنتاج المرونة السياسية باسم الإيمان، وتجسيد حيّ لفكرة أن العقيدة يمكن أن تكون سلّمًا للصعود، ومظلّة للنزول، وأحيانًا قناعًا للانتظار.. ظاهرون في العلن، خفيّون في الخلفية، يبتسمون من الظل، ويقولون: نحن هنا، لكن لا تحاول أن تفهمنا بالكامل، فالفهم المبالغ فيه مضيعة للوقت.
ربما كانوا في النهاية تجسيدًا لعبارةٍ كتبها أحدهم يومًا: إن أخطر ما يمكن أن يحدث للدين، أن يتحزب.