صنعاء 19C امطار خفيفة

لعبة الأمم من مالطا إلى الشرق الجديد

مدخل : بين الحقيقة والتوظيف حول قراءة في دلالات مقال منسوب.

قرأت مؤخرًا مقالًا منسوبًا للدكتور هيثم مناع، المعارض السوري المعروف والحقوقي المخضرم، يتحدث فيه عن سوء الأحوال في سوريا وما آلت إليه الأمور بعد سقوط الدولة في أيدي الجماعات التي وُصفت بالإرهابية. بدا المقال وكأنه نواح على الأطلال وبكاء على زمنٍ مضى، وهو ما أثار لديّ شكوكًا عميقة في نسبته إليه. فمن معرفتي ومتابعتي لأسلوب الدكتور مناع، لا يمكن أن أُسلّم بصحة ما نُشر إلا إذا صدر عنه مباشرة في مقابلة تلفزيونية، أو نُشر عبر صحيفة معتبرة، أو عبر موقعه الرسمي. وما عدا ذلك فهو توظيف وانتقاء يخدم أغراضًا معينة، وربما توظيف وإسقاطات موجهة لدعم مواقف غيره ومكانتهم التي كانت وحالهم اليوم.
ومع ذلك، لا بأس في تناول ما ورد منسوبًا إليه باعتباره يعكس وجعًا حقيقيًا ومرارةً عامة يعيشها كثيرون ممن حلموا بالحرية والتغيير، قبل أن يتحول الحلم من منظورهم إلى كابوس. الرسالة – مهما كان مصدرها – تكشف عن حالة من الأسى، لا على ما كان فحسب، بل على ما لم يكن، وما كان يمكن أن يكون لو لم تختطف التحولات مسار التاريخ في لحظةٍ فوضويةٍ من لحظات الربيع العربي.
لقد عبّر الدكتور مناع، في كثير من مداخلاته وكتاباته السابقة، عن رؤى نقدية عميقة تخلو من الانكسار، لكنها تفيض بالحسرة على ضياع فرصة كان يمكن أن تغيّر وجه المنطقة نحو الأفضل. وهذا الوجع لا يخصه وحده، بل يشاركه فيه طيف واسع من الوطنيين الأحرار في كل بلدٍ شهد حراكًا شعبيًا تحوّل إلى ساحة صراعٍ دولي مفتوح.
في الحقيقة، ما نُسب إليه من مواقف وبالمقارنة ينطبق – إن صحّ – على حقبة الرئيس حافظ الأسد أكثر مما ينطبق على مرحلة بشار الأسد، الذي لم يكن مهيأً لخلافة والده، وهو ما كان أحد الأسباب الجوهرية لانهيار التوازن الداخلي وتفاقم الأوضاع في سوريا. غير أن ما جرى لا يمكن قراءته بمعزل عن الصراع الدولي على النفوذ؛ فكل حاكمٍ في منطقتنا لا يصعد أو يسقط إلا بقدر ما تسمح به لعبة الأمم وموازينها الخفية.
إنها لعبة لا تتوقف؛ تدور حلقاتها بين القوى الكبرى التي تتقاسم النفوذ، وتعيد تشكيل المشهد وفق مصالحها، عبر ما أسماه البعض "المهندسين العابرين للحدود" — أولئك الذين تتحرك مصالحهم فوق خرائط الدول. ومن يتأمل تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية، يدرك أن ما جرى في اتفاق مالطا بين روزفلت وستالين وتشرشل لم يكن سوى رسمٍ أوليٍّ لخارطة النفوذ التي حكمت العالم لعقودٍ طويلة، ووضعت ضوابط غير مكتوبة لما سُمي بالنظام الدولي الجديد آنذاك.
من رحم تلك المرحلة، وُلدت أنظمة في سوريا والعراق ومصر وليبيا، وغيرها حافظت على بقائها ما دامت القواعد القديمة قائمة. لكن حين تبدلت موازين القوى، وتفكك الاتحاد السوفييتي، وصعدت الصين والهند كقوى منافسة، بدأ التغيير الحتمي في قواعد اللعبة.
واليوم، تبدو الولايات المتحدة وكأنها تسعى إلى إعادة تشكيل حضورها وهيمنتها عبر مشروع "الشرق الجديد"، الذي تمكّن فيه ذراعها الأطول – إسرائيل – لتكون أداة إعادة ترتيب المنطقة وإقصاء أي نفوذٍ منافس. وتحت لافتات التطبيع والاتفاق الإبراهيمي، يجري تحويل المنطقة إلى نطاقٍ حيوي أمريكي خالص، في مقابل إرضاء القوى الكبرى الأخرى في نطاقاتها الحيوية: الصين في بحرها وتايوان، وروسيا في أوكرانيا.
وهكذا، تتشكل ملامح عالمٍ متعدد الأقطاب، يُعاد فيه توزيع الأدوار والنفوذ وفق تفاهماتٍ جديدة غير مكتوبة، كما كان الحال في بدايات النظام الدولي السابق
بعد هذا المخاض العسير، يبدو أن العالم يتّجه نحو ولادة نظامٍ دولي جديد على أنقاض تفاهمات مالطا، نظامٍ سيحتاج إلى فترة "استراحة" لتفادي الانهيار الكامل، قبل أن يُعاد بناء قواعد اللعبة من جديد. هذه المرة، لن تكون القواعد محكومة بالحروب الكبرى كما في الماضي، بل بـ التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والتنافس على الموارد النادرة.
وهكذا، يدور التاريخ دورته، وتبقى الشعوب – تدفع الثمن الأكبر في كل جولةٍ من جولات لعبة الأمم، بينما يستمر الحلم بأن يأتي يومٌ تُكتب فيه المعادلة بأقلام الشعوب لا بخرائط القوى الكبرى.

الكلمات الدلالية