جمال عبد الناصر.. 55 عاماً من الخلود (7)
هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً؟!..
حكاية المعتقلات!..
ظلت قضية المعتقلات سلاحاً مهماً في يد خصوم وأعداء عبد الناصر يشهرونه على الدوام في حملاتهم المتواصلة لتشويه صورته والنيل من تجربته. وكثيراً ما روّج هؤلاء لرواية تُصوِّر مصر في عهد عبد الناصر سجناً كبيراً لعشرات الآلاف من المعتقلين المظلومين الذين لا ذنب لهم سوى أنهم عاشوا في زمنه.
دعونا نحاول النظر إلى الحقائق كما هي، بعيداً عن المبالغات والتزييف والتضليل.
منذ قيام الثورة في 23 يوليو 1952 وحتى وفاة عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 لم يتجاوز عدد أوامر الاعتقال التي صدرت 14 ألف حالة!!. وهذا الرقم يمثّل عدد حالات الاعتقال، وليس عدد الأفراد المعتقلين، إذ قد يحدث أن يُعتقل الشخص أكثر من مرّة. ما يعني أن العدد الفعلي للمعتقلين أقل من هذا الرقم بكثير، وربما لا يتجاوز نصف هذا الرقم. والكثير من حالات الاعتقال كانت لمدد قصيرة، لا تتعدى بضعة أيام.
وحالات الاعتقال هذه التي ذكرناها، تشمل: رجال العهد الملكي، والأحزاب القديمة، ومن واجهوا إجراءات الثورة في الإصلاح الزراعي، وتحديد الملكية، والإجراءات الاشتراكية، وتمصير الاقتصاد الوطني، وأعضاء التنظيمات السرية المناهضة للنظام، وشبكات التخابر، ومن اعتبروا مهدِّدِين لأمن الدولة...إلخ.
كانت أوسع حملة اعتقالات قد وقعت عام 1965، عندما اكتُشِف تنظيم مسلّح للإخوان المسلمين؛ ويعود سبب اتساع هذه الحملة إلى الظروف التي اكتُشف فيها التنظيم المسلح وقتئذ، وخطورة الخطة التي كان التنظيم ينوى تنفيذها، لِيُحدث شلَلَا تاماً للحياة في القاهرة والعديد من المحافظات. حيث شملت الخطة تفجير القناطر الخيرية، والجسور والكباري، ومحطات الكهرباء، والمباني، وغير ذلك. وكانت الأجهزة الأمنية في سباق مع الزمن لاكتشاف العناصر الموكول إليها القيام بأعمال التخريب تلك. حينها اعتقل نحو خمسة آلاف شخص. وهي أكبر عملية اعتقال حدثت في عهد عبد الناصر، وأغلب هؤلاء تم الإفراج عنهم بعد بضعة أيام أو شهور.
وهذه الأرقام التي نذكرها لحالات الاعتقال في عهد عبد الناصر مصدرها بيانات وزراء الداخلية في عهد السادات (السيد فهمي، والنبوي إسماعيل). وهم بكل تأكيد لم يكونوا يضمرون مشاعر وِدّيّة لعبد الناصر ونظامه، بل صدرت تلك البيانات في ظل حملة شرسة ممنهجة قادها نظام السادات لتشويه صورة عبد الناصر ونظامه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن حالات الاعتقال تلك، حدثت في ظل ظروف مواجهات مفتوحة مع أعداء الثورة في الداخل والخارج، وفي خضم معاركها الكبرى للتحرر من الاستعمار ومواجهة الكيان الصhيوني، وفلول العهد الملكي البائد، والمتضررين من الإجراءات الثورية، والتنظيمات السرية والمسلحة المعادية...إلخ.
وعند وفاة عبد الناصر لم يكن في المعتقلات سوى 450 شخصاً، بينهم نحو 150 شخصاً تم اعتقالهم من قِبل المخابرات الحربية في سيناء لشبهة اتصالهم بالكيان الصhيوني، ومن بين بقية المعتقلين كانت هناك قائمة بعدد 120 شخصاً تقرر الإفراج عنهم.
هذه هي حكاية المعتقلات التي لا يملّ الأفّاقون والمزوِّرون من ترديدها صبحاً وعشياً زيفاً وكذباً وتضليلاً.
وللمقارنة، فإنه في العهد الملكي قبل ثورة يوليو، وخلال عامي 1948- 1949 وحدهما تجاوز عدد المعتقلين خمسة آلاف شخص، ومعظمهم من العناصر الوطنية الرافضة لممارسات النظام حينذاك. وفي عهد أنور السادات (أكتوبر 1970 ـ أكتوبر 1981) كان عدد المعتقلين 19 ألف معتقل (وفي تقارير أخرى كان العدد 46 ألف معتقل)!!. وعند اغتيال السادات كان في المعتقلات ما يزيد عن 1500 معتقل. وهذه البيانات مصدرها النبوي إسماعيل وزير الداخلية في عهد السادات!!.
هذه المقارنة توضح بجلاء الفارق بين التضليل، وبين الواقع كما هو. فهل من مناقشة منصفة لقضية الاعتقالات في عهد عبد الناصر والعهود الأخرى، ومقارنة التحديات التي واجهت كل عهد، وهويّة المعتقلين، وطبيعة القضايا التي تم الاعتقال بسببها؟!.
لننظر إلى تلك الفِرية التي يروّجها هؤلاء الأفّاقون بأن عبد الناصر اعترف أو تفاخر!! يوماً باعتقال عشرين ألف شخص في ليلة واحدة، وهي كذبة وفِريَة لا أساس لها بالطبع، ومع ذلك وجدت من يصدّقها، بل صار الأفّاقون والمخدوعون يردِّدونها وكأنها حقيقة تاريخية، والمثير للسّخرية والأسى معاَ، أن يتبناها من يُفترض أنهم مؤرّخون وأساتذة تاريخ!!.
إن حالات الاعتقال التي جرت في تلك الحقبة لم تكن نزعة انتقامية، بل إجراءات ضرورية - تجري في كل الأنظمة - فرضتها طبيعة التحديات التي كانت تواجه النظام وقتئذ، والدليل على ذلك أن المعتقلين كانوا يعودون إلى وظائفهم دون اتخاذ أي إجراءات عقابية إضافية بحقهم على أي نحو.
لسنا هنا لندافع عن الاعتقالات، ولا لتبرير تجاوزات وقعت. ولا يبرّر تقييد حرية إنسان واحد بريء بدون سبب إلا شخص فاقد للكرامة. ما نتوخّاه فقط هو الوصول إلى الحقيقة، والحقيقة فقط، بعيداً عن التشويه والتضليل؛ ليس دفاعاً عن عبد الناصر، بل انتصاراً للحقيقة وقِيَم الحق والإنصاف والفضيلة، وانتفاعاً بدروس التاريخ لبناء رؤية أفضل للمستقبل.
.....................
التالي: حكاية التعذيب!!....