من منحة إلى محنة..
مشروع الطاقة الشمسية في عدن.. حين يسطع الضوء على أرضٍ مغتصبة
في مدينةٍ أنهكتها الحرب وأرهقها الظلام، استقبل سكان عدن نبأ إنشاء محطة للطاقة الشمسية بفرحٍ غامر. فقد بدت المنحة الإماراتية كنافذة ضوء في نفق طويل من انقطاع الكهرباء، لكن سرعان ما تبيّن أن تحت الألواح اللامعة تكمن قصة مظلمة من الصراع والادعاءات المتناقضة على الأرض التي أُقيم عليها المشروع.

بريق المنحة وأحلام عدن المكسورة
أُعلن المشروع مطلع عام 2023 كمنحة من دولة الإمارات، تمولها شركتا «مصدر» و«جلوبال ساوث يوتيليتيز (GSU) التابعتان لمؤسسة أبوظبي للاستثمار، بالتعاون مع وزارة الكهرباء والطاقة اليمنية والسلطة المحلية بعدن.
الهدف المعلن: إنتاج 120 ميجاوات من الكهرباء كمرحلة أولى، لتقليل اعتماد المدينة على وقود الديزل وتخفيف كلفة التشغيل التي تتجاوز مليوني دولار يوميًا.

لكنّ البهجة لم تدم طويلًا. فبعد أسابيع من تدشين المشروع في منطقة بئر أحمد غرب عدن، خرج مواطنون من أبناء المنطقة إلى الشوارع رافعين وثائق ملكية، متهمين السلطات المحلية بـ«السطو على أراضيهم الخاصة» بذريعة المنفعة العامة. وهكذا، تحوّلت المنحة إلى شرارة نزاع قانوني واجتماعي واسع.
أرض المشروع... من يملكها؟
تبلغ مساحة المحطة أكثر من 1.6 مليون متر مربع، وتضم نحو 211 ألف لوح شمسي، بحسب بيانات وزارة الكهرباء وموسوعة الطاقة الشمسية العالمية.
السلطة المحلية في عدن تصرّ على أن الأرض “تتبع مؤسسة المياه”، وأن المشروع أُقيم بموجب قانون الاستملاك للمنفعة العامة رقم (1) لسنة 1995.
لكن سكان المنطقة، وبينهم أسر شهداء، يؤكدون أن الأرض ملك خاص موثّق بأحكام قضائية، وأنها صودرت دون تعويض أو إجراءات قانونية سليمة.

يقول أحد الملاك في حديث لـ«النداء»: “كما تستقبل الألواح نور الشمس، نعيش نحن في عتمة قرارات لا تعرف العدل… أخذوا أرضنا باسم الوطن، وتركوا لنا الغبار.”
بين القانون والسلطة
في يونيو 2025، أطلقت السلطة المحلية حملات “إزالة للعشوائيات” في المنطقة تمهيدًا لتوسعة المرحلة الثانية من المشروع، بقدرة إضافية تبلغ 120 ميجاوات.
تمت الإزالات تحت إشراف الأجهزة الأمنية، بحجة “حماية أراضي الدولة”. غير أن الأهالي يرونها عملاً قسريًا أُريد منه فرض الأمر الواقع.

بحسب افادة مصادر قانونية لـ«النداء»، تجاهلت السلطة نص المادة (2) من قانون الاستملاك الذي يشترط «التفاوض المسبق والتعويض العادل» قبل أي استقطاع للأملاك الخاصة.
وتشير الوثائق إلى أن المحافظ أحمد حامد لملس وجّه بمراجعة وثائق ملكية مقدّمة من الشيخ توفيق صالح الصبيحي في فبراير 2023، وهو ما يؤكد أن السلطة كانت على علم بالنزاع أثناء تنفيذ المشروع.
رواية الملاك: وثائق تتحدث
الشيخ توفيق الصبيحي، وهو أحد أبرز الملاك الذين يدّعون امتلاك الأرض المقام عليها المشروع، قدّم لـ«النداء» حزمة وثائق قانونية تتضمن قرار لجنة معالجة قضايا ملكية الأراضي رقم (1-480) لعام 2010، الصادر بتوجيه رئاسي من الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح.
القرار يثبت ملكية الشيخ الصبيحي لمساحات واسعة تمتد بين عدن ولحج، ويُلغي 47 قرارًا سلبيًا صدرت بحق أسر وأفراد آخرين ادعوا ملكية ذات الأرض.

كما تستند الوثائق إلى مستندات تاريخية تعود للقرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجري، مسجّلة في سجلات السلطنة العبدلية، ومصادق عليها من محكمة الاستئناف بعدن.
يقول الصبيحي: “نحن لا نعارض المشاريع التنموية، لكننا نرفض أن تُقام على أنقاض حقوقنا. هذه أرض ورثناها أباً عن جد، والسلطة تعرف ذلك.”

تبرير وتناقض
في المقابل، تؤكد مصادر في السلطة المحلية أن الأرض “أرض دولة”، وأن المشروع “حيوي واستراتيجي لا يحتمل التأجيل”. لكن وثائق رسمية صادرة عن القائم بأعمال هيئة الأراضي بعدن بتاريخ 15 مارس 2023 تعترف بوجود نزاع قانوني، وتوجّه بدراسة ملكية الشيخ الصبيحي “والرفع بالنتائج”.

رغم ذلك، مضت أعمال البناء دون انتظار نتائج التحقيق، في ما يصفه قانونيون بأنه تجاوز صريح للإجراءات القانونية.
ويقول محامٍ مطلع لـ«النداء» فضل عدم ذكر اسمه: “السلطة أرادت أن تظهر إنجازًا أمام المانحين، حتى لو على حساب القانون. وهذا النمط يتكرر في مشاريع كثيرة تُقام تحت شعار التنمية.”
الشركة الإماراتية بين الإنكار والتجاهل
على الجانب الآخر، تشير مواقع إخبارية إماراتية إلى أن شركة «مصدر» هي الممول والمنفذ الرئيسي للمشروع، غير أن موقعها الرسمي لم يذكر عدن ضمن قائمة مشاريعها، رغم إدراجه مشاريع مماثلة في الأردن ومصر وموريتانيا.
هذا الغياب يثير تساؤلات حول ما إذا كانت الشركة على علم بالنزاع القانوني أم أنها اختارت الصمت لتجنّب الجدل.
ويقول مصدر مطّلع على ملف التعاون: “ربما تُركت معالجة مشكلة الأرض للسلطة المحلية كي لا تتحمل الشركة المانحة تبعات قانونية، لكن هذا لا يعفيها من المسؤولية الأخلاقية وفق معايير التمويل الدولي.”
الإجراءات البيئية... ملف مغلق
تواصلت «النداء» مع الهيئة العامة للبيئة في عدن للاستفسار عن تقييم الأثر البيئي للمشروع، إلا أن مسؤولي الهيئة رفضوا تقديم التقرير بدعوى «السرية الإدارية». غير أن مصدرًا داخل الهيئة كشف أن التقرير “أُعدّ تحت ضغط من مسؤولين محليين، وتم تكييفه لتسهيل المشروع دون دراسة كافية للتربة أو التأثير على المياه الجوفية”.
التعويضات... ثلاث مرات لغير المالكين
التحقيق توصل إلى أن السلطة المحلية عوّضت أطرافًا ادعت الملكية ثلاث مرات بمبالغ متفاوتة، فيما لم يُعوَّض المالك الأصلي حتى الآن.
ويرى مراقبون أن هذه التعويضات المتكررة تُظهر “تخبطًا إداريًا وازدواجًا في القرارات”، وتعكس نمطًا متكرراً من “السطو المقنّن” على الأراضي العامة والخاصة في عدن.
وأمام انسداد الحوار، رفع الشيخ توفيق الصبيحي دعوى قضائية ضد السلطة المحلية ووزارة الكهرباء، مطالبًا بوقف التوسعة وتعويضه عن الضرر.
القضية ما تزال قيد النظر، لكنها تضع المشروع أمام اختبار حرج: فهل يُمكن لمشروع يُقام على أرض متنازع عليها أن يُعتبر إنجازًا وطنيًا؟
التنمية على حساب العدالة
من “منحة إماراتية” إلى “قضية ملكية” تتنازعها الوثائق والمحاكم، تختصر قصة مشروع الطاقة الشمسية في عدن مأساة التنمية في زمن الفوضى.
فبين خطاب المنفعة العامة وصوت الملاك المقهورين، يظل السؤال معلقًا: هل يمكن أن تشرق شمس التنمية فوق أرضٍ بلا عدالة؟