حكاية صراع البنوك في اليمن: كيف انهارت العملة وتدهو الاقتصاد؟
مرت العملة اليمنية بمراحل معقدة من الطباعة والتداول والتدهور، ارتبطت على الدوام بالتحولات السياسية والحروب التي عاشها اليمنيون منذ إنهاء الحكم الملكي وإعلان الجمهورية عام 1962، مرورًا بإعادة تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990، ثم حرب صيف 1994، وصولًا إلى سلسلة الأزمات والحروب اللاحقة التي كان لها أثر بالغ على الاستقرار النقدي والاقتصادي.
وتُعدّ الحروب الست في صعدة، وثورة فبراير 2011، ثم الحرب الأهلية التي اندلعت عام 2014، والتدخل العسكري للتحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات عام 2015، أبرز المحطات التي أسهمت في إضعاف العملة الوطنية، وصولًا إلى أخطر هذه التحولات: انقسام البنك المركزي اليمني.
فوارق صرف وانقسام نقدي
في أعقاب سيطرة جماعة الحوثي على العاصمة صنعاء أواخر عام 2014، قررت الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا في عام 2016 نقل مقر البنك المركزي إلى مدينة عدن. ومنذ ذلك الحين، انقسمت المؤسسة النقدية السيادية إلى كيانين.

وسعى كل طرف إلى فرض سيطرته النقدية، فبدأ البنك المركزي في عدن بطباعة أوراق نقدية جديدة، شملت فئات 100 و200 ريال، ثم 500 و1000 ريال، وتكررت عمليات الطباعة حتى عام 2021. في المقابل، لم يتأخر رد البنك المركزي في صنعاء، إذ أقدم في مارس 2024 على سك عملة معدنية من فئة 100 ريال، تلاها إصدار ورقة نقدية من فئة 200 ريال، ثم سك عملة معدنية من فئة 50 ريالًا.
وتكمن المشكلة الجوهرية في عدم اعتراف كل طرف بإصدارات الطرف الآخر، ما أدى إلى تعميق الانقسام النقدي وخلق فجوة كبيرة في سعر الصرف بين مناطق سيطرة الحوثيين ومناطق سيطرة الحكومة، وفاقم الأعباء الاقتصادية على المواطنين، في بلد يعاني أصلًا من أسوأ أزمة إنسانية في العالم وفق تصنيف الأمم المتحدة.
انهيار العملة واتساع الفجوة
كان من أولى تداعيات هذا الانقسام ظهور فوارق حادة في أسعار صرف الحوالات المالية بين صنعاء وعدن وبقية المناطق. ففي ذروة الأزمة، بلغ الفارق في سعر الصرف نحو 70% لصالح مناطق سيطرة الحوثيين، قبل أن يتراجع لاحقًا إلى قرابة 35%.

وأثّر هذا التفاوت بشكل مباشر على الموظفين والعمال الذين يتقاضون رواتبهم في مناطق سيطرة الحكومة، ويضطرون لتحويلها إلى أسرهم في صنعاء، حيث تُخصم نسبة كبيرة من قيمة دخلهم. كما امتد الأثر السلبي ليشمل حركة التجارة والمعاملات المالية بين شطري البلاد.
مصادرة أموال المواطنين
في عام 2020، منعت جماعة الحوثي تداول الأوراق النقدية المطبوعة في عدن بعد عام 2016. وفي 30 مايو 2024، دعا البنك المركزي في صنعاء المواطنين والمؤسسات المالية والتجارية إلى إيداع ما بحوزتهم من أوراق نقدية قديمة خلال مهلة لا تتجاوز 60 يومًا، تحت طائلة العقوبات.

وبالفعل، جرى تطبيق إجراءات صارمة بحق المخالفين، شملت المصادرة والعقوبات السجنية. ويقول المحلل الاقتصادي اليمني وحيد الفودعي إن جماعة الحوثي “سحبت الطبعات النقدية الصادرة عن بنك عدن دون إتلافها، وأعادت ضخها في مناطق سيطرة الحكومة بهدف شراء العملات الصعبة والمشتقات النفطية من مأرب وحضرموت”.
تدهور متواصل في مناطق الحكومة
في حين لم تتأثر مناطق سيطرة الحوثيين بشكل مباشر بإصدارات صنعاء الجديدة، ولم تسمح الحكومة المعترف بها بتداولها في مناطقها، فإن الأثر الأشد وقع في مناطق سيطرة الحكومة، حيث واصل الريال اليمني انهياره الحاد أمام الدولار وبقية العملات الأجنبية.
وخلال ذروة التدهور، بلغ سعر صرف الدولار في مناطق الحكومة نحو 2830 ريالًا، مقارنة بنحو 215 ريالًا فقط عند اندلاع الحرب عام 2015، بينما استقر في مناطق سيطرة الحوثيين عند حدود 540 ريالًا للدولار.
اتفاقات معلّقة وطباعة مستمرة
في 23 يوليو 2024، أعلن المبعوث الأممي إلى اليمن التوصل إلى تفاهم يقضي بإلغاء الإجراءات العقابية ضد البنوك من الجانبين، ووقف أي قرارات أحادية مستقبلًا. غير أن هذا الاتفاق لم يُنفذ عمليًا، واستمرت الإجراءات المتبادلة، بما في ذلك طباعة وسك دفعات جديدة من العملة.
وبرّرت جماعة الحوثي سك العملات المعدنية الجديدة باعتباره إجراءً “مدروسًا ومسؤولًا” لمعالجة مشكلة الأوراق التالفة، مؤكدة أنه لن يؤدي إلى زيادة الكتلة النقدية أو التأثير على سعر الصرف.
فعليًا، شكّلت الأوراق النقدية التالفة في صنعاء عبئًا كبيرًا على المواطنين والتجار، خصوصًا من فئتي 100 و200 ريال. ومع ذلك، لم يقم البنك المركزي في عدن بطباعة فئة 100 ريال، بل اكتفى بفئة 200 ريال التي رفضت سلطات صنعاء الاعتراف بها أو تداولها.
في المقابل، اعتبر بنك عدن الإصدارات النقدية الصادرة من صنعاء “عملة مزورة”، كونها صدرت - وفق توصيفه - عن جهة غير قانونية. وقد قوبلت هذه الإصدارات بانتقادات دولية من الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وفرنسا، التي اعتبرت الخطوة “إجراءً أحاديًا يعمّق الانقسام الاقتصادي ولا يخدم السلام أو الاستقرار في اليمن”.
النقد الإلكتروني… حل أم أزمة جديدة؟
إلى جانب ذلك، شجعت سلطات صنعاء التوسع في التعامل بالنقد الإلكتروني. ويرى المحلل الاقتصادي وحيد الفودعي أن هذه الخطوة أسهمت في تآكل القيمة الشرائية للريال.
تكشف المحصلة النهائية لانقسام البنك المركزي، وما رافقه من طباعة وسك عملات جديدة، عن تفاقم غير مسبوق للأزمة المعيشية، تمثّل في الارتفاع الجنوني لأسعار السلع الأساسية، واستمرار الفجوة في الحوالات المالية، والانهيار المتواصل للعملة الوطنية، ما عمّق دائرة الفقر وألقى بعبء ثقيل على كاهل المواطن اليمني المنهك أصلًا بالحرب.