اللاجئ اليمني والأمم المتحدة: عقد من الإهمال والصمت

UNHCR
منذ اندلاع الحرب في اليمن قبل أكثر من عشر سنوات، يعيش اللاجئ اليمني واحدة من أكثر التجارب الإنسانية قسوة وتهميشًا في التاريخ الحديث، في ظل صمتٍ دولي مريب، وتجاهلٍ مؤسسي من قبل الأمم المتحدة والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين. ورغم أن اليمن صُنّف رسميًا ضمن "أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم"، فإن هذا التصنيف لم يتحول إلى حماية فعلية أو برامج دعم شاملة كما حدث مع لاجئي دول أخرى، بل بقي اليمني على هامش الاهتمام، منسيًا في خريطة اللجوء الدولي، وكأن معاناته لا تستحق الاعتراف.
لقد تحوّل اليمن خلال العقد الأخير إلى مسرح مفتوح لكل أشكال المآسي: حرب طاحنة أحرقت البنية التحتية، أزمات مناخية متزايدة بسبب الجفاف والتصحر، انهيار اقتصادي شامل، منظومة صحية منهارة، ومجتمع يرزح تحت وطأة الفقر والنزوح والمرض. ومع ذلك، فإنّ تعامل الأمم المتحدة مع ملف اللجوء اليمني ظلّ دون الحد الأدنى من المسؤولية الأخلاقية والإنسانية. بينما نرى أن لاجئين من دول أخرى، بعضها لا يعيش نصف ما يعانيه اليمنيون، يحظون ببرامج دعم ثابتة تشمل الإعانات الشهرية، والرعاية الصحية، وفرص التعليم والعمل، والمساعدات القانونية.
من خلال تجربتي الشخصية في مصر، خلال السنوات الثماني الماضية، وجدت أن وضع اللاجئ اليمني داخل منظومة الأمم المتحدة والمفوضية السامية، مؤلم للغاية. الملف اليمني هناك غير مرحب به، وتُقابل الطلبات بإهمال متكرر وتأجيل لا ينتهي. لا يُنظر إلى اليمني كلاجئ يستحق الحماية، بل كملف معقّد يُفضل تجاوزه أو تأجيله إلى ما لا نهاية. رأيت بنفسي كيف يحصل لاجئون من جنسيات أخرى على إعانات مالية شهرية، وبدل غذاء وسكن، ورعاية طبية، في حين يُحرم اليمني من كل ذلك، أو يُمنح مساعدة رمزية لمرة واحدة فقط، وكأنها لفتة عابرة لا التزام إنساني.
ورغم أن أوراق اليمنيين في المفوضية غالبًا سليمة ومكتملة، إلا أن التعامل معهم يتم ببرود غير مفهوم. تُرفع الملفات، تُراجع، ثم تُعاد إلى رفوف الانتظار. وبدل أن تكون المفوضية نافذة أمل، أصبحت في نظر الكثيرين جدارًا من البيروقراطية يحجب عنهم حقهم في الحياة الكريمة. الأمر لا يقتصر على مصر فحسب، بل يمتد إلى الأردن ولبنان وماليزيا وتركيا، حيث تتكرر الشكاوى من اليمنيين عن المعاملة ذاتها: تأخير في التسجيل، تأجيل للمقابلات، تجاهل للطلبات، وانعدام شبه تام لأي دعم مادي أو معنوي.
هذه المعاملة لا يمكن تفسيرها فقط بنقص التمويل أو ضغط الأعداد، فالمشكلة أعمق من ذلك، ترتبط بالتصنيف السياسي لليمن ضمن "دول الصراع غير المستقر"، وهو تصنيف يسمح للمفوضية بالتعامل مع اللاجئ اليمني باعتباره "نازحًا مؤقتًا" يمكنه العودة في أي وقت، رغم أن الواقع يقول عكس ذلك. فالحرب في اليمن لم تتوقف، والأزمات تتفاقم، والعودة باتت حلمًا مؤجلًا إلى أجلٍ غير مسمّى.

من جهة أخرى، يتحمّل المجتمع الدولي مسؤولية مضاعفة، إذ لم يمارس ضغطًا كافيًا على الأمم المتحدة لتفعيل دورها الإنساني الحقيقي تجاه اليمنيين. حتى الإعلام العالمي نادرًا ما يتناول قضية اللجوء اليمني، وكأن المعاناة هناك لا تثير الاهتمام أو لا تحقق المشاهدات. في حين تُغطّى أزمات أخرى على نطاق واسع، ويُفتح أمامها باب التمويل والتضامن الدولي. إنها مفارقة قاسية تضعنا أمام سؤال جوهري: هل صارت الإنسانية انتقائية؟
اليمنيون في المنافي يعيشون أوضاعًا مأساوية. فالكثير منهم لا يملكون إقامة قانونية مستقرة، ولا يستطيعون العمل بسبب القيود القانونية. بعضهم يعيش على مساعدات متقطعة من جمعيات خيرية محلية، وآخرون يعتمدون على أقارب في الداخل بالكاد يرسلون لهم القليل من المال. هناك أسر فقدت كل شيء: المسكن، العمل، الأمان، وحتى الإحساس بالكرامة. ومع ذلك، لا يجدون من يسمع أصواتهم أو يوصل معاناتهم إلى العالم.
إنّ تجاهل الأمم المتحدة والمفوضية لهذا الملف لا يُعدّ مجرد تقصير إداري، بل هو إخلال أخلاقي وإنساني، لأنّ اليمنيين لا يطلبون امتيازات، بل أبسط الحقوق: الحماية، والمعاملة المتساوية، والاعتراف بكونهم ضحايا حرب وكوارث مركبة. هذا الإهمال يخلق شعورًا عميقًا بالخذلان لدى اللاجئ اليمني، الذي يرى نفسه محاصرًا بين جدران الحرب في بلده، وجدران البيروقراطية في المنافي.
لقد آن الأوان أن يُعاد النظر في سياسات المفوضية السامية تجاه اللاجئين اليمنيين. المطلوب ليس معجزات، بل خطوات إنسانية واضحة: الاعتراف بالأزمة اليمنية كأحد أكبر أزمات اللجوء في العالم، إدراج اليمنيين في برامج الدعم الدائمة، توفير مساعدات مالية وصحية وتعليمية، تسهيل إجراءات إعادة التوطين لمن يستحقونها، وتفعيل قنوات الشكاوى والمراجعة بشفافية.
كما أن على المثقفين والإعلاميين والناشطين اليمنيين في الخارج مسؤولية مضاعفة في إيصال هذا الصوت إلى المنابر الدولية. فالقضية لا تتعلق فقط بمساعدات إنسانية، بل بحقوق أساسية تم تجاهلها عمدًا أو عن غير قصد. يجب أن يتحوّل ملف اللجوء اليمني إلى قضية رأي عام، تُناقش في المؤتمرات وتُكتب عنها المقالات، ويُطالب بها البرلمانيون ومنظمات المجتمع المدني.
إنّ مأساة اللاجئ اليمني لا تنحصر في الجوع أو الفقر، بل في الشعور الدائم بأنه غير مرئي، وأن صوته لا يصل. حين تتجاهلك المؤسسات التي وُجدت لحمايتك، فإنك تفقد الثقة في العالم، وتشعر بأن الإنسانية نفسها فقدت معناها. ومع ذلك، ما يزال اليمني -رغم كل شيء- يتمسك بكرامته، ويواصل الحياة في المنافي، مؤمنًا بأنّ العدالة قد تتأخر، لكنها لا تموت.
لقد مرّ عقد كامل من الإهمال والصمت، لكن الوقت لم يفت بعد لتصحيح المسار. فكل إنسان، مهما كان وطنه، يستحق الحماية والكرامة. واليمنيون الذين تحمّلوا الحرب والجوع والنزوح والخذلان، يستحقون أن تُفتح لهم أبواب العدالة، لا أن تُغلق في وجوههم.