تلويحة وداع.. لـ بلقيس
لم يكن خبر توقف قناة بلقيس مجرد إعلان تقني عن إطفاء جهاز بث، بل زلزالًا خطف الحلم، خلّف دمارًا هائلًا، وشكّل مشهدًا للحظة غرق سنوات من العمل الدؤوب كالمدن القديمة في الروايات الحزينة.
انطفأت الشاشة كما تنطفئ شمعة في غرفة مزدحمة، ذوت صفحات بلقيس على مواقع التواصل، وتوقفت الذبذبات الأثيرة في الفضاء الرحب؛ لكنها ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة.
فالهواء الذي كان مرة فضاءً للجدل والأصوات المتعددة والمتنوعة، صار اليوم متجرًا افتراضيًا لكل الأصناف، تُباع فيه الحماسة بالتجزئة، ويُشترى فيه الموقف والرأي بالجملة، وتُقاس المصداقية بعدد الإعجابات والمشاهدات لا بقوة الحجة وبوزن الحقيقة.
حسنًا.. توقفت بلقيس.. لكن البلاد لا تتوقف عن إنتاج الأسئلة الجارحة، بل والدامية، كما هو حاصل الآن شرقًا في حضرموت والمهرة.
توقفت بلقيس، لكن السياسة لا تتوقف عن صناعة الضجيج لمجرد إحداث جلبة. قلتُ ذلك وأنا أشاهد مقطعًا متلفزًا لرئيس البرلمان سلطان البركاني في المخا، وهو يصرخ بحماسته المعهودة، وهي في الحقيقة "بلا ولا شيء".
الجميع مستمر، والذي توقف وحده هو المنبر الذي حاول في لحظة ما أن يرفع الصوت عاليًا فوق هذا الركام وهذا الصراخ وسط سوق المضاربة الكبير الممتد على طول البلاد وعرضها.
توقفت بلقيس، لأنها لم تكن تسوّق الوهم للناس أو تعرض ما يريد الجمهور أن يراه، بل تلفت الانتباه إلى ما يحتاجه ويمس حياته بشكل مباشر.
كانت القناة تحاول أن تحافظ على شيء من المعنى في صميم الكلمة وجوهر الخبر وصدق الموقف، من خلال نشرة لا تُشترى ولا تُباع.
كانت تحاول أن تحافظ على برنامج حواري لا يخلط بين الحقيقة والإبهار، الموقف والرأي الصريح المدوي، على وجوه مذيعين لم يتدربوا على الفضيحة، بل على المفردة الواضحة التي تنفجر وتنشطر في وجوه الفاسدين والفاشلين والمتآمرين على مذبح الوطن في أسواق المال والأعمال السياسية المبتذلة.
لكن هذا المعنى نفسه، والموقف نفسه، طوال تجربة عقد من الزمن، ممن استباحوا البلاد من الداخل والخارج، هو نفسه صار معركة خاسرة في عصر يُدار بالمنصات السرية المافيوية المصنوعة في أروقة أجهزة المخابرات، والجاذبة لجمهورها باللايكات المشتراة والمصطنعة، وتغزوه الترندات كل يوم وربما كل ساعة كسيول بلا ذاكرة وبلا أثر.
لم تخسر بلقيس وحدها..
لقد خسر مجتمع مشتت، نازح، عريان في بطون الصحارى والأودية، ويختنق بغياب نافذته الأخيرة للهواء والضوء.
بسـكوت بلقيس خيّم صمت ثقيل على زاوية أخرى من المشهد الذي كان يومًا ما مزدحمًا بالوجوه والأسئلة والحكايات والجدل والأحلام الكبيرة، لكن، كما علمتنا التجارب، لا تموت الفكرة بإقفال باب الاستديو وانطفاء الأضواء وغياب لمعان بريق شعارها بالأصفر الفضي المميز المتداخل مع الأزرق الجذاب.
ولن تُطفأ الكلمة الضوئية "بلقيس" بإزالة الشعار عن مدخل المبنى والشاشة. فالأصوات التي حملت هذا المشروع ستجد — يومًا — طريقًا آخر، شاشة أخرى أشد صلابة.
الصحافة بكل مرارتها، بكل فنونها وأشكالها وقوالبها وتعدداتها المرئية والمسموعة والمكتوبة، ليست مبنى ولا ميزانية، إنها شغف يعاند الرحيل، حرف ينبت في لحم صاحبه، وصوت يدوي في الأعماق.
وهي مناسبة هنا أن نتجاوز سؤال الكثيرين ممن تساءلوا ورددوا علينا سؤالهم، وهو ليس: لماذا توقفت بلقيس الآن؟
بل: أي مستقبل يبقى للبلد الذي تغيب فيه وسائل الإعلام المحترمة والمهنية واحدة بعد الأخرى، بينما شبكات الأكاذيب والدعاية والترويج ومنصاتها المُدلِّسة الخادعة تتكاثر بنعومة وهدوء؟