صنعاء 19C امطار خفيفة

تحت شمس الحديدة.. نساء يصنعن الحياة من رماد الحرب

تحت شمس الحديدة.. نساء يصنعن الحياة من رماد الحرب
نساء يصنعن الحياة من رماد الحرب

بعد رحيل والدها، قررت منال أحمد أن تقف صامدة في وجه صعوبات الحياة، رغم قسوتها، لم يعد هناك من تعتمد عليه في خضم التحديات المتزايدة التي فرضها واقع الصراع في المدينة التي تقيم فيها، كما هو حال معظم المدن اليمنية التي تئن تحت وطأة حرب مستمرة منذ أكثر من عقد من الزمن.

تقيم منال في مديرية الحالي، وسط محافظة الحديدة، في منزل إيجاره ثلاثون ألف ريال، تعيش فيه برفقة والدتها وشقيقتها الصغيرة ذات العشر سنوات وشقيقها العشريني،ورغم ضيق الحال، تحاول والدتها أن تساندها دومًا، بينما تسعى منال جاهدة للبحث عن فرصة رزق، حتى وإن كانت من داخل منزلها، في محاولة لتأمين أبسط متطلبات الحياة.

تروي منال قصتها قائلة: "كان والدي يعمل مهندس سيارات ويمتلك ورشة خاصة به في احدى شوارع المدينة ، وكانت حياتنا مستقرة وجميلة بوجوده وبفضل مصدر الدخل الذي يوفره لنا، لكن الحرب حرمتنا من أبسط مقومات السعادة، فقد والدي مصدر رزقه، وتدهورت أوضاعنا بشكل كبير، عشنا مرارة النزوح والتشرد، ومرت علينا أيام قاسية لا يمكن نسيانها."

في عام 2018، وصلت نيران الحرب إلى الأحياء الشرقية من مدينة الحديدة، حيث كانت تقع ورشة العم أحمد، والد منال ومع تصاعد القصف وسقوط أولى القذائف، أُجبر على إغلاق ورشته كبقية المحال والمرافق التجارية في المنطقة، فيما اضطر السكان للنزوح تحت وقع الخوف.

لم يجد العم أحمد  سوى أن يحمل أدواته ومعداته التي جمعها على مدى سنوات، وينقلها إلى منزله في وسط المدينة، على أمل أن يجد فرصة جديدة للاستمرار.لم يكن يتوقع أن الحياة القادمة ستكون مشحونة بالتشرد والفقر والعوز وقلة الحيلة في ظل الصراع الذي طال امده.

بعد مرور خمس سنوات، توفي والد منال إثر ذبحة صدرية، بعدما ضاقت به الحياة وأثقلت كاهله هموم الأسرة ، رحل تاركًا عبء المسؤولية على عاتق ابنته العشرينية، التي لم تكن مستعدة لمواجهة تحديات تفوق عمرها، لكنها لم تستسلم. منال تعلّمت من الحياة معنى الصبر والصمود، وواجهت واقعهما القاسي بشجاعة.

فتاة في مواجهة الفقر

تقول منال:"بعد رحيل والدي، بدأنا نشعر بالجوع. تدهورت صحة أمي، وأختي الصغيرة ما زالت بحاجة إلى التعليم والرعاية أما أخي، فلم يتمكن من إكمال دراسته بسبب أوضاعنا المادية، وبقي يبحث عن عمل دون جدوى، بعدها بدأ يفكر في السفر إلى السعودية، على أمل الحصول على فيزا وعمل ينقذنا من الجوع، كما يفعل كثير من شباب اليمن."

وفقًا لتقرير أممي صدر في عام 2024 بعنوان"قياس الفقر متعدد الأبعاد في اليمن" بلغت نسبة الفقر في البلاد نحو 82%. وأوضح التقرير أن نسبة الفقر في المناطق الحضرية وصلت إلى 68.9%، بينما ارتفعت في المناطق الريفية إلى 89.4%.

وأشار التقرير إلى أن 46.7% من اليمنيين يعانون من أشكال متعددة من الحرمان، في حين تضررت فرص سبل العيش بنسبة 54% ولفت التقرير إلى أن معدلات الفقر في اليمن تتفاقم بشكل مستمر منذ اندلاع الصراع في عام 2014.

كشف تقرير أممي آخر أن اليمن يحتل المرتبة الثانية عالميًا في معدلات الفقر، وهي حقيقة يؤكدها الواقع المؤلم الذي يعيشه ملايين اليمنيين،فمنهم من يقتات على وجبة واحدة في اليوم، ومن يواجه أطفاله خطر الموت بسبب سوء التغذية، بل إن هناك من يفقد حياته جوعًا، في بلد أنهكته الحرب وأثقلته الأزمات.

محاولات منال من أجل الحياة

تقول منال في حديثها لصحيفة النداء " عملت مدرسة لعدد من اولاد الأغنياء في مقابل شهري لا يتجاوز سبعة الف ريال يمني على الطالب ، اعمل في نقش الحناء إلا أن هذا العمل موسمي وبنفس الوقت هو شاق  جدا، يتسبب لي بالم بالعينين والظهر وأصابع اليد، احيانا اتحمل هذه الاوجاع من أجل لقمة العيش في ظل عدم وجود من يعيلنا".

لم تكتفي منال عند هذه المهام، بل عملت في بيع مستحضرات التجميل منها العطور والبخور والطيب كمندوبة لنساء يصنعن هذه المنتجات بمقابل نسبة بسيطة من قيمتها، كما عملت  في مجال التجميل وبيع الأقمشة النسائية المخيطة، الا أنها لم تجدي نفعا من المردود الذي تحصل عليه، وتعمل حاليا في بيع البطاط المقلي من المنزل، في محاولة للحصول على حياة كريمة لها وأسرتها.

تحديات

تعيش أسرة  منال على ما تستطيع الحصول عليه من المهام السابقة التي تحصل عليه، ولم تصل الأسرة اي مساعدات من التي تصرفها المنظمات، تجد الأسرة صعوبة في توفير ايجار المنزل وقدره ثلاثين ألف ، كما تجد طفلتهم  الصغيرة  امل صعوبة في الحصول على  مصاريف الدراسة واحتياجاتها كطفلة، وتواجه الأسرة صعوبة في توفير كل المتطلبات الأساسية التي تقوم عليها أي بيت.

الصحفية أفراح بورجي تقول "في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها كثير من الأسر ، كغيرها من المحافظات اليمنية هناك  الكثير من الفتيات يواحهن شجاعتهن وهمتهن العالية  الفقر، خاصة بعد فقدانهن لمعيل الأسرة، سواء بسبب الحرب أو المرض أو غياب فرص العمل.

وتتابع  في حديثها لصحيفة النداء "نرى نماذج مشرّفة لفتيات لم يستسلمن للواقع، بل توجهن للعمل في مجالات بسيطة لكنها شريفة، مثل الخياطة، نقش الحناء، بيع المأكولات من المنازل، أو التدريس في المدارس الأهلية، رغم كل التحديات والمعوقات."

وتضيف: "هؤلاء الفتيات لا يحتجن سوى الدعم والتشجيع، وتوفير فرص حقيقية تساعدهن على بناء مستقبل آمن وكريم لهن ولأسرهن لأن ما يقمن به هو شكل من أشكال المقاومة الحقيقية للفقر والعوز، ودليل واضح على أن المرأة اليمنية قادرة على الصمود والعطاء متى ما وُجدت بيئة تحميها وتؤمن بقدراتها."

مشروع لم يرى الحلم

لطالما حاولت منال افتتح محل لبيع وجبة الملفوف، وهو وجبة تتفنن في تجهيزها، الملفوف عبارة عن شرائح من العجين محشوه بمكونات هي لحم مفروم وسلطة ومعجون الثوم والبطاطس المقلية، إلا أن هذا المشروع لم يرى النور بعد، لأن منال تقف عاجزة عن احتياجاته والتكلفة التي يتطلبها.

تقول منال :" كل الذي استطيع توفيره الان هو لقمة العيش لاسرتي، ادرك تماما أن هذا المشروع مهم بالنسبة لي لكن أرى حاليا أنه صعب، كم فتاة عجزت عن عمل مشروع خاص بها والسبب الغلاء والظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيش بها الكثير من الأسر.

في هذا الشأن يقول الصحفي الاقتصادي نبيل الشرعبي أن  الحرب تسببت في حالة كبيرة وواسعة من الفقر في أواسط اليمنيين، ونتيجة الحاجة المتزايدة لتوفير حاجات الأسر وجدت يمنيات أنفسهن في معترك البحث عن فرص عمل أو تحمل أعباء افتتاح مشروع خاص يساعد في تغطية حاجيات الأسرة ولو في أقل مستوى من المطلوب.

ويتابع:" هذا التوجه من عدد يمنييات في زمن الحرب والبيئة التي أفرزتها  ليست مثل بيئة وظروف ما قبل الحرب، وهذا يجعل فرص نجاح أي مشروع ضئيلة ما يزيد من الضغوط وتحمل المرأة عبء ثقيل بداية من النظرة الدونية التي ستوجهها مرورا بالضغوط النفسية يرافقها ضغوط توفير متطلبات المشروع وتتوالى المتاعب في ظل ضعف القدرة الشرائية، ناهيك عن عبء الخوف من الغرق في الديون وأخيرا عياب خبرة إدراة تأسيس مشروع خاص في مراحل التأسيس ومن ثم الإدارة بعد التأسيس والتعامل مع السوق."

ظروف اقتصادية خانقة

يعيش الكثير من سكان محافظة الحديدة في فقر مدقع، خاصة منذ اندلاع الصراع في المدينة، التي لا تزال تدفع ثمن الحرب حتى اليوم. فقدان فرص العمل دفع بالعديد من الأفراد إلى براثن الفقر والجوع، وتفاقمت أوضاعهم مع انتشار المجاعة وانعدام مصادر الدخل.

يقول ناشط من الحديدة، فضّل عدم ذكر اسمه:"هناك الكثير من الأفراد الذين فقدو مصدر دخلهم بسبب الصراع، ولم يتمكنوا من استعادته؛ هناك معلمون اضطروا لنقل أسرهم من المدينة إلى الأرياف بعدما أصبح من الصعب البقاء في المدينة في ظل انقطاع الرواتب."

ويضيف:"العديد من الأسر انتقلت من الرفاهية إلى الفقر بعد تسريح معيلها من العمل نتيجة إفلاس المؤسسات والمرافق التي كانوا يعملون بها. وهناك أسر أخرى تجرعت مرارة الفقد والفقر معًا، بعدما أصبح معيلوها ضحايا للصراع نتيجة قصف المنشآت التي كانوا يعملون فيها وتدميرها."

كان من الممكن لمنال أن تعيش حياة أكثر استقرارًا بعد وفاة والدها، خصوصًا وأنه كان يمتلك مصدر دخل ثابت. ولو لم تلتهم نيران الحرب مصدر رزقه، لكان بإمكان شقيقها أو أحد أفراد الأسرة مواصلة العمل فيه، لكن فقدان الورشة التي كانت مصدر عيشهم جعل من استعادتها أمرًا بالغ الصعوبة، في ظل ارتفاع إيجارات العقارات وتكاليف المعدات والكهرباء، وكل ما كان يحتاجه والد منال لإعادة تشغيل الورشة التي خسرتها الأسرة بسبب الحرب.

الكلمات الدلالية