صنعاء 19C امطار خفيفة

الرواية اليمنية.. الإنسان وذاكرة الأرض

تظل الرواية اليمنية تعمل في الظل، تكتب بوجع التاريخ وحكمة الأرض، وتبني عالمها السردي الخاص وسط واقع مليء بالتحديات السياسية والاجتماعية والثقافية. ورغم كل ذلك، استطاعت أن تثبت حضورها عربيًا وعالميًا، بفضل عدد من الروائيين الذين جعلوا من الحكاية اليمنية مرآة لوجدان الإنسان، ومختبرًا لتاريخ لم يكتب بعد كما يجب.

لقد تعرضت الرواية اليمنية لقدر كبير من التهميش، سواء في النقد أو في الإعلام أو في الحضور الثقافي العربي العام. وهذا التهميش لم يكن بسبب ضعف التجربة، بقدر ما كان نتيجة لظروف موضوعية، كغياب البنية التحتية الثقافية، وضعف مؤسسات النشر، وقلة الاهتمام النقدي المحلي، إلى جانب الوضع السياسي الذي جعل اليمن لسنوات طويلة معزولًا عن الفعل الثقافي العربي. ومع ذلك، لم يتوقف الكتّاب اليمنيون عن الكتابة، بل ربما كان هذا الظلم محفزًا لخلق أدب أكثر عمقًا وصدقًا، فخرجت من رحم المعاناة روايات تكشف الواقع اليمني بجرأة، وتعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والتاريخ والمكان.
ظهرت ملامح الرواية اليمنية الحديثة في منتصف القرن العشرين، عندما بدأت النخبة المثقفة في صنعاء وعدن بالتفاعل مع التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها البلاد في فترة ما قبل وبعد الثورة. كانت الرواية حينها أداة للتعبير عن الوعي الوطني، وعن الصراع بين التقاليد الصلبة وموجات التغيير القادمة من الخارج. ومع الزمن تطورت التجربة لتنتقل من الخطاب الأيديولوجي إلى الإنساني، ومن الحكاية التقليدية إلى البناء الفني الناضج، فصار الروائي اليمني يكتب عن الإنسان لا بوصفه ضحية للظروف فحسب، بل ككائن يسعى إلى الحرية والمعنى.
وسط واقع مأزوم، برز عدد من الروائيين اليمنيين الذين استطاعوا أن يعبروا عن قضايا مجتمعهم بلغة فنية عالية، وأن يلفتوا انتباه النقاد العرب والدوليين إلى خصوصية التجربة اليمنية. ويعد وجدي الأهدل من أبرز الأسماء في هذا السياق، إذ قدم أعمالًا جريئة مثل "قوارب جبلية" و"فيلسوف الكرنتينة"، تناول فيها العلاقة بين السلطة والمجتمع بأسلوب ساخر ذكي يجمع بين الحس الواقعي والرمزية النقدية.
الأهدل لا يكتب عن اليمن فحسب، بل عن الإنسان العربي العالق بين القهر والرغبة في الخلاص. أما علي المقري فقد قدم نموذجًا مختلفًا في الرواية اليمنية، منفتحًا على الأسئلة الحساسة في الدين والهوية والجسد. في روايته "اليهودي الحالي"، أعاد قراءة التاريخ اليمني من زاوية التعايش الديني والثقافي، بينما أثارت روايته "حرمة" جدلًا واسعًا لتناولها موضوع الحرية الجسدية والروحية للمرأة اليمنية في مجتمع محافظ.
أسلوب المقري يمزج بين الواقعية الحادة واللغة المكثفة، ما جعله يحظى بترجمات إلى لغات عديدة، وأسهم في إيصال الأدب اليمني إلى القراء في أوروبا.
ومن الأصوات البارزة كذلك، محمد الغربي عمران الذي قدم روايات مثل "مملكة الجواري" و"ظلال الجفر" و"حصن الزيدي"، مسلطًا الضوء على التداخل بين الدين والسياسة والسلطة في التاريخ اليمني. ويمتاز عمران بقدرته على توظيف التاريخ كخلفية درامية لطرح أسئلة الحاضر، ما جعله من أبرز من كتب الرواية التاريخية اليمنية المعاصرة.
كما لا يمكن تجاهل تجربة عبدالرحمن عبدالخالق ومحمد علوان وحبيب سروري، الذين اتجهوا نحو موضوعات الاغتراب والهوية والحداثة، مقدمين رؤية فلسفية وإنسانية عميقة لليمن والعالم العربي.
حبيب سروري تحديدًا في روايات مثل "دملان" و"عرق الآلهة"، استخدم الأسلوب الواقعي السحري، ليخلق عالمًا يتقاطع فيه العلم والفكر والمقدس، في محاولة لفهم مأزق الإنسان المعاصر.
تظل أكبر عقبة تواجه الرواية اليمنية اليوم، هي صعوبة الوصول إلى القارئ العربي، فالنشر في اليمن يكاد يكون معدومًا بسبب غياب دور النشر المتخصصة، وضعف الإمكانات المادية، وانعدام البيئة الثقافية الداعمة. لذلك يعتمد كثير من الكتاب اليمنيين على دور نشر عربية في القاهرة أو بيروت أو تونس، لإصدار أعمالهم.
ومع أن بعض الروايات اليمنية وصلت إلى القوائم الطويلة والقصيرة في جوائز عربية مرموقة، مثل جائزة البوكر العربية، وجائزة الشيخ زايد للكتاب، فإنها لاتزال خارج دائرة الضوء الإعلامي الواسع، ربما لأن المشهد الثقافي العربي ينظر إلى الأدب اليمني بوصفه هامشيًا أو بعيدًا، متجاهلًا أنه يحمل في داخله كنزًا من التجارب الإنسانية التي لم تكتشف بعد.
ما يميز الرواية اليمنية عن غيرها، هو قدرتها على المزج بين الواقع والأسطورة، بين اليومي والتاريخي، بطريقة تعكس عمق الذاكرة الجمعية للمجتمع اليمني، فاليمن بلد غني بالحكايات والأساطير والمرويات الشفوية، وهذه الخلفية الثقافية انعكست بوضوح في أعمال كثير من الروائيين الذين يوظفون المكان بوصفه شخصية حية داخل النص، من صنعاء القديمة وعدن الساحلية إلى تعز وصعدة والمكلا، يتحول المكان في الرواية اليمنية إلى ذاكرة وكيان روحي يحمل آثار الحروب والهجرات والأديان، ويجعل من كل رواية وثيقة فنية عن هوية تبحث عن ذاتها في زمن الانقسام.
رغم تنامي التجربة الروائية، لايزال النقد الأدبي اليمني ضعيفًا، وغالبًا ما يعتمد على جهود فردية من أكاديميين أو باحثين مستقلين، فقلة الدراسات الأكاديمية المتخصصة في الرواية اليمنية تجعل كثيرًا من الأعمال تمر دون تحليل نقدي كافٍ، ما يحد من حضورها في الوعي الثقافي العربي، لكن في السنوات الأخيرة بدأت بعض الجامعات اليمنية والعربية تهتم بتدريس الأدب اليمني ضمن مناهجها، وصدرت كتب نقدية تناولت تجارب وجدي الأهدل وعلي المقري وحبيب سروري وغيرهم، مما يبشر بمرحلة جديدة من الوعي النقدي تجاه هذا الأدب اليوم.
ومع الانفتاح الثقافي الكبير عبر وسائل الإعلام ومنصات النشر الرقمية، بدأت الرواية اليمنية تجد طريقها إلى جمهور أوسع.
كثير من الكتاب الشباب يكتبون بجرأة أكبر، مستفيدين من حرية الإنترنت، ومن تفاعل القراء المباشر. هذا الجيل الجديد لا يكتب فقط عن الحرب والدمار، بل عن الحب والمنفى والحنين والبحث عن الذات. إنه امتداد طبيعي لجيل الأهدل والمقري وعمران، لكنه أكثر وعيًا بتجربة الشتات، وأكثر اتصالًا بالعالم.
ليست الرواية اليمنية هامشًا في الأدب. هي نافذة تطل على واقع معقد ومتغير، تفتح أبوابًا لمساحات الحرية والتأمل في الهوية والانتماء، وتبرهن على قدرتها الاستثنائية في المزج بين الواقع والرمز والتاريخ والأسطورة، لتصبح تجربة فريدة تنبض بالحياة داخل الأدب العربي المعاصر.

الكلمات الدلالية