الإنسان بين النور والظل
يبدو أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يحمل في داخله هذا الصراع العميق بين ما يسمو به إلى المراتب العليا، وما يهوي به إلى الدركات السفلى. نحن مزيج غريب من النور والظل، من الرحمة والغضب، من المحبة والأنانية. ولسنا معصومين عن الخطأ، لكننا لسنا عاجزين عن الصواب أيضًا.
منذ طفولة الإنسان، تظهر فيه إشارات متضادة: عفوية تدهشك في نقائها، وأنانية تُقلقك إن تُركت دون تهذيب. وهو يكبر، ويكبر معه هذا الصراع. في كل لحظة، يُخيَّر بين أن يصفح أو ينتقم، أن يكون صادقًا أو يختار الطريق الأسهل: الكذب. في داخله صوتان... أحدهما يدعوه إلى الرفق، والآخر يهمس له بأن القسوة أسرع طريق لحل المشكلات.
لكنّ الإنسان ليس محكومًا بالكامل بغرائزه. لديه عقل، وضمير، وإرادة يمكن أن ترجّح كفة على أخرى. حين يختار الخير، لا يصبح قديسًا، لكنه يقترب من صورته الأجمل. وحين يرضى بالدونية، لا يُمحى نوره تماماً، لكنه يخبو، ويصعب إشعاله من جديد.
المشكلة أننا كثيرًا ما نتعامل مع الأخلاق وكأنها رفاهية، أو مثالية لا مكان لها في عالم الواقع. نغض الطرف عن الكذب بحجة "الضرورة"، ونتسامح مع الظلم عندما يخدم مصالحنا. وهكذا، نفقد تدريجيًا قدرتنا على رؤية الفرق بين ما هو إنساني، وما هو مجرّد ظهور لهذه الدونية.
في اليمن، بلد الطيبة والأصالة، مازال في الناس من الخير الكثير، لكنّ هذا الخير يحتاج إلى من يسنده، من يغذّيه، من يذكّر الناس بأننا لم نُخلق فقط لنأكل ونتنازع، بل لنكون نماذج للنبل والمروءة. الصراع الحقيقي ليس بين طرف وآخر، بل بين ما هو نبيل وما هو دوني في داخل كل واحد منا.
ولعلّ أخطر ما في هذا الصراع أنه لا يظهر دائمًا بصورته الحقيقية. فبعض السلوكيات التي نبرّرها على أنها "ذكاء" قد تكون غشًّا مقنّعًا، وبعض ما نصفه بـ"قوة الشخصية" قد يكون تعديًا على الآخرين. نحن أبرع المخلوقات في تزيين أخطائنا، وطمس حدود الصواب والخطأ وفقًا لأهوائنا. وهنا تأتي الحاجة المُلحّة إلى وعي داخلي صادق، لا يستند إلى ما يراه الناس، بل إلى ما يُرضي الضمير، ويُنمّي ما هو مضيء فينا، ولو بصمت.
لو أن كل فرد فينا انشغل بتهذيب داخله قبل إصلاح غيره، لتبدّلت أحوالنا. فالإنسان حين يعلو بنفسه، يعلو مجتمعه معه. وحين يستسلم لأسوأ ما فيه، لا يجرّ إلا الخراب. نحن في النهاية نتيجة ما نغذّيه في داخلنا: نورًا... أم ظلًا.