صنعاء 19C امطار خفيفة

العشماوي يروي حكاية ربع قرن في اليمن: من دهشة البداية إلى ذاكرة الوحدة والحرب

العشماوي يروي حكاية ربع قرن في اليمن: من دهشة البداية إلى ذاكرة الوحدة والحرب

في شهادةٍ صحفية تلامس التحوّلات الكبرى التي عاشها اليمن خلال العقود الثلاثة الأخيرة، يستعيد الكاتب والصحفي المصري إبراهيم العشماوي، مدير تحرير صحيفة الأهرام، محطّات من تجربته الممتدة ربع قرن في البلاد التي أحبّها وعاش تفاصيلها اليومية كواحدٍ من أبنائها.

بين شغف البدايات في ريف الدقهلية المصرية، وخطواته الأولى في صنعاء مطلع عام 1990، يفتح العشماوي ذاكرته ليحكي عن دهشة اللقاء الأول باليمن، وعن تلك المدينة التي رآها "بسيطة ومدهشة في آن"، وعن إنسانها الذي وجده يشبهه في الطيبة والاحترام.

الحلقة الأولى من الحوار ترصد كيف تَحوّل الشاب القادم من حلم الصحافة إلى شاهدٍ على وحدة وطنٍ كان يؤمن به كمشروعٍ عربي جامع. يروي العشماوي للزميلة رحمة حجيرة لحظات إعلان الوحدة اليمنية التي بكى فيها في الشوارع، متأثراً بعمق التجربة، وصلتها الوجدانية بحلم الوحدة العربية الذي عاشه جيله منذ تجربة مصر وسوريا. كما يتوقف عند المشهد السياسي والإعلامي لتلك الفترة، حين وُلدت عشرات الصحف والأحزاب، وبدأت اليمن تخوض أولى تجاربها الديمقراطية بعد قيام الوحدة.

بين أمل البناء وتحديات الانقسام والحرب، يقدم العشماوي قراءةً بانورامية لمسار الدولة اليمنية الحديثة، في حديثٍ يزاوج بين الذاكرة الشخصية والسرد الوطني.

"النداء" تنشر النص الكامل للحلقة بالتزامن مع عرضها المصوّر على قناة "حكايتي" في يوتيوب.

رحمة: مرحباً مشاهدينا. في عالم الصحافة، هناك من يكتفي بنقل الخبر، وهناك من يعيش الحدث بكل تفاصيله، ويصبح جزءاً من نسيج المجتمع الثقافي والاجتماعي، كالمصري إبراهيم العشماوي، الذي استطاع أن يحفر اسمه في ذاكرة اليمنيين بفضل تجربة استثنائية امتدت إلى ربع قرن، جمعت بين المهنة والحب الحقيقي لليمن. فمن هو إبراهيم العشماوي؟
هو كاتب وصحفي مصري بارز، يشغل منصب مدير تحرير صحيفة الأهرام، ومدير مكتبها في محافظة الدقهلية، ويُعتبر من المتخصصين في الشؤون اليمنية. قضى 25 سنة في اليمن، عمل خلالها في عدة مؤسسات إعلامية، منها صحيفة 26 سبتمبر الحكومية، ومكتب الأهرام، ومجلة الأهرام العربي، وكان مراسلاً اقتصادياً لصحيفة الحياة اللندنية. وكان خير شاهد على ما حدث سياسياً من تحولات في اليمن. تم الإعلان عن الوحدة اليمنية وهو في صنعاء، حيث بكى في الشوارع كما ذكر في كتابه، وشهد حرب الانفصال وهو في صنعاء، وترسيم الحدود مع السعودية وعُمان وإريتريا، وأحداث 2011، وغادر في 2013.
أعتقد أن ضيفي الأستاذ إبراهيم العشماوي، خيرُ شاهدٍ على التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها اليمن. وحينما نرى اليمن مجتمعاً وسياسياً بعينٍ عربية، سيكون الأمر مختلفاً تماماً.
اسمحوا لي أن أقدّم لكم ضيفي إبراهيم العشماوي. مرحباً بك أستاذ إبراهيم.
إبراهيم العشماوي: مرحباً بك أستاذة رحمة.
رحمة: أولاً، لا بد للمشاهدين أن يتعرفوا إليك أكثر. أين وُلد إبراهيم، ومتى؟
إبراهيم العشماوي: إبراهيم محمود العشماوي، مواليد قرية ديمشلت، مركز دكرنس، محافظة الدقهلية عام 1965. تلقيت تعليمي الابتدائي والإعدادي في نفس القرية، ودرست المرحلة الثانوية في مدرسة علاء مبارك الثانوية في دكرنس، وحصلت على بكالوريوس إعلام من قسم الصحافة، جامعة القاهرة عام 1987.
رحمة: كيف جاءت فكرة أن تدرس الإعلام؟ هل من والدك أو والدتك؟ أم هناك إعلاميون بارزون في أسرتك؟
إبراهيم العشماوي: الحقيقة، والدي رحمة الله عليه كان مزارعاً بسيطاً من طينة المجتمع المصري، ووالدتي سيدة ريفية، واكتسبت منهما كل معاني الطيبة في الشخصية المصرية، التي يوجد فيها التحدي والارتباط بالأرض والنجاح وفهم معنى الوطن، ومعنى الكفاح والعرق الشريف. تعلمتُ منهما كثيراً جداً.
والدتي وحيدة والديها، ولها عم كان رحمه الله من علماء الأزهر الشريف، الشيخ عوض ناصر ملش، وهذه الأسرة لها امتداد، وكان خالي الأستاذ دياسطي عوض ناصر، وهو كان مدير عام الغرفة التجارية.
والد ووالدة ابراهيم العشماوي
رحمة: هذا يعني أنه لم يكن هناك إعلاميون، ولكن لماذا لم تفكر أن تصبح طبيباً أو تتخصص في الزراعة؟
إبراهيم العشماوي: هذا كان حلم الأسرة طوال سنوات الدراسة الأولى. كنت متفوقاً دراسياً، وكنت ترتيبي الأول أو الثاني أو الثالث. وكان حلمهم في المرحلة الثانوية أن أدرس علمي، لكن في الحقيقة، شغفي بالقسم الأدبي يرجع إلى اهتمامي المبكر بالكتابة، بالصحافة، بالإبداع، بالتعبير عن النفس. في الصف الرابع الابتدائي كنا في الإذاعة المدرسية نعدّ كلمات الصباح عن مصطفى كامل وسعد زغلول ورموز مصر، وكنت أهتم بهذا الجانب. صحف الحائط التي كنا نرسمها ونعمل فيها افتتاحيات ومقالات تعبّر عن النظافة والانتماء للوطن.
وفي بواكير الصبا بدأت أكتب الشعر وأهتم بالشعر العربي، وفي هذا الوقت كان اهتمامي بالمكتبة والاطلاع مسألة مهمة جداً. أحببت الشعر من خلال أحمد شوقي وديوان الشوقيات وحافظ إبراهيم، وشخصية عباس محمود العقاد، الشخصية الفريدة في التحدي والموسوعية.
رحمة: ألم تفكر في أن تصبح شيخاً أزهرياً كخالك مثلاً؟
إبراهيم العشماوي: ربما لأن التعليم الأزهري لم يكن متوفراً في القرية بشكل كبير، وفيما بعد تم تأسيس معهد أزهري، ولكن الأزهر كان له تأثير كبير جداً في المحيط حولنا. طالب الأزهر هو الطالب الفصيح الملتزم، وكانت هذه المسألة تشدّنا كثيراً. في هذه الفترة بدأ الاهتمام بالكتابة والتعبير والإفصاح عما بداخلي، والحلم والشعر، لدرجة أن مدرس اللغة العربية في مدرسة علاء مبارك الثانوية كان يقول لي بعد قراءة موضوع التعبير: "كما يقول الشاعر..."، وهذه الأبيات كانت من بنات أفكاري! وكان يعتقد أنها مقتبسة من شعر آخر.
في هذا الوقت كان اختيار الكلمة الجميلة مهماً. الريف المصري جميل، يبعث على الجمال والإبداع. الخضرة والماء والتنسيق الجمالي كانت موجودة في الريف. كان الريف آنذاك واحةً غنّاء، وشيئاً جميلاً جداً، يشبه الريف الموجود في اليمن.
رحمة: في مرحلة الثانوية، في 1980كان عمرك 15 عاماً تقريباً. في هذه الفترة الزمنية، ما هي القضايا التي كانت تشغل ابناء جيلك وتشغلك؟
إبراهيم العشماوي: في هذا التوقيت، في المدرسة الثانوية، استُشهد الرئيس الراحل أنور السادات، وهذا أحدث هزةً كبيرة جداً. كنا في منتصف التحول الاقتصادي أو الرأسمالي الذي حدث في مصر بعد انتصارات أكتوبر. نحن الجيل الذي فتح عينيه على انتصارات 6 أكتوبر 1973، وكان هذا مدهشاً بالنسبة لنا.
السادات
لكن فيما بعد ظهرت آثار كبيرة لعملية التحول من الاقتصاد الاشتراكي إلى الاقتصاد الرأسمالي، وظهور الفئات الطفيلية في المجتمع. كنا في هذا الوقت يشغل بالنا قضية العدالة الاجتماعية. الريف المصري أشعر منذ زمن طويل بأنه مهضوم الحقوق؛ الفلاح ينتج ويعطي الدولة محاصيله، ولكنه لا يحصل إلا على الفتات. في ذلك الوقت، رأيت أن مهنة الصحافة هي الرسالة التي تعيد الميزان إلى صوابه، وهي لسان حال الناس.
رحمة: متى قررت أن تدرس الإعلام؟
إبراهيم العشماوي: من اللحظة التي تحولت فيها من القسم العلمي إلى القسم الأدبي في بداية الصف الثاني الثانوي، وأنا الذي بدأت أختار هذا الطريق. لدرجة أني كنت في ثالث ثانوي أكتب عبارة "كلية الإعلام - قسم الصحافة" وأضعها تحت وسادتي، لأن هذا كان الحلم.
رحمة: وكيف كان موقف أسرتك آنذاك؟ هل وجدت منهم دعمًا وتشجيعًا على المضي في هذا الطريق؟
إبراهيم العشماوي: بالطبع، بعد الصدمة الكبيرة التي حدثت لهم لأنني لم أختر الطريق العلمي. كانوا يأملون أن أصبح طبيباً، لكنني خذلتهم، إذ كانت لديّ بعض الهواجس التي تخيفني من المشرحة والجثث والدم. كانت مسألة مخيفة بالنسبة لي، فاتجهت إلى القسم الأدبي، وكنت الأول في المرحلة الثانوية، ودخلت كلية الإعلام في جامعة القاهرة التي تجمع النخب.
جامعة القاهرة
رحمة: كيف عبّروا عن خذلانهم لك؟ هل أظهروا استياءهم أو ضيقهم من قرارك؟
إبراهيم العشماوي: طبعاً، الحلم بالنسبة لهم ربما تبخّر. هناك أطباء في القرية من الأقارب، والطبيب هو النموذج. في ذلك الوقت تحديداً، أبناء الفلاحين المجتهدين المكافحين أصبحوا أطباء ومهندسين بفضل ثورة 23 يوليو، التي علمت الأجيال الجديدة وأعطت الناس الحق في الحياة والتعليم. كانت تلك فترة مهمة جداً. لكن فيما بعد، قبلوا بهذا الأمر وارتضَوا، حينما حصلت على المرتبة الأولى في مدرسة علاء مبارك -القسم الأدبي.
رحمة: تخرجت من الجامعة عام 1987، في السنوات الأربع التي درستها في كلية الإعلام، ما خلاصة ما أنجزته وأنتجته؟
إبراهيم العشماوي: نحن في كلية الإعلام، أبناء الريف الذين انبهروا بأضواء المدينة، شعرنا بصدمة حضارية، لأن الانتقال إلى المدينة مسألة كانت صعبة وقاسية. لم أكن وحدي، بل كان هناك عشرات، بل مئات من الزملاء. حينما استوعبنا القاهرة وبدأنا نتكيّف مع مناخها ونختلط بالآخرين، بدأت القضايا الوطنية تشغلنا. أتذكر في مرحلة الثمانينيات كانت هناك حركة طلابية نشطة. وبدأت في جريدة الشعب أعمل بالقطعة.
أتذكر أحد الموضوعات كدتُ أن أخسر بسببها سكني في المدينة الجامعية؛ كتبت تقريراً بعنوان طلاب جامعة القاهرة يطالبون بإقالة زكي بدر ومحاكمته، وكان وزير الداخلية آنذاك، وكنت أتخفّى حينها حتى لا يراني المسؤولون.
ومن الطرف التي حدثت لي أنني كتبت مقالاً بعنوان ليست صحف إبراهيم و موسى، طبعاً في القرآن الكريم: «إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى». كنت قد أرسلتها لجريدة الجمهورية، لأن الأستاذ إبراهيم نافع رحمه الله كان رئيس تحرير الأهرام، والأستاذ موسى صبري رئيس تحرير الأخبار. وانا قلت في المقالة: "هذه ليست صحفهم الخاصة"، وأرسلتها إلى رئيس تحرير الجمهورية. بالطبع لم تُنشر، لكنني أتذكر أنني كتبت فيها نوعاً من النقد.
إبراهيم نافع
رحمة: وكانوا يرون فيك الشاب الثوري المتمرّد، ولا عجب أنك ذهبت إلى اليمن. لكن دعنا نسأل: منذ طفولتك، متى أول مرة سمعت باليمن؟ وماذا كان الانطباع الموجود لديك؟
إبراهيم العشماوي: اليمن، في كتب التاريخ والجغرافيا بالنسبة لنا ونحن ندرس في المدرسة الابتدائية، هي بلاد البن والمدرجات الزراعية والحضارة، حضارة الأحقاف، القوم الذين ينحتون من الجبال بيوتاً.
رحمة: هذا كنت تعرفه وأنت في الابتدائية؟
إبراهيم العشماوي: نعم، نحن ندرس الحضارات، ندرس في التاريخ وجغرافية الوطن العربي، ودرسنا عن هذه البقعة في أقصى جنوب الجزيرة العربية، الملكة بلقيس، ملكة سبأ، كل هذا نتعلمه. نحن الطلاب المصريون نتعلم هذه المفاهيم والمعلومات. والحقيقة، لفتت انتباهي اليمن، لكن قرار الذهاب إليها اتخذته عام 1989 وأنا في الأردن بعد التخرج وبعد انتهاء فترة الجيش.
رحمة: لماذا غادرت القاهرة؟ هل بسبب مقالاتك واستفزازاتك للآخرين؟
إبراهيم العشماوي: في الحقيقة، كان الطريق صعباً وشاقاً، بمعنى أنه يحتاج الصحفي إلى علاقات ووساطات ومعارف. ورغم أني كنت بين زملائي أقول لهم: لا بد أن نحقق الحُلم في بلدنا، لأن الخروج هو هروب.
العشماوي في شبابه
لكن كان المنهج في ذلك الوقت قوله تعالى: «فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور». الخروج هو أيضاً تجربة، فسافرت إلى الأردن من حالة الاختناق.
رحمة (مقاطعة): هل كانت لديك دعوة مميزة للأردن، أم مجرد ذهاب؟
إبراهيم العشماوي: ذهبت فقط، وخلال أسبوع التقيت أحد أعضاء مجلس الأعيان الأردني، أعطاني بطاقة وذهبت إلى جريدة اسمها أخبار الأسبوع، وهي جريدة يمتلكها فلسطيني اسمه الأستاذ عبدالحفيظ محمد رحمه الله. عملت فيها لمدة سنة وثلاثة أشهر. خلال هذه الفترة التقينا بالملك حسين رحمه الله في مؤتمر صحفي، وكانت تجربة 1989 في الأردن تجربة شديدة الخصوصية، لأن ظهور التيارات الدينية فيها كان قوياً، وكانت الأردن في هذا الوقت قد اتخذت قرار إنهاء العلاقة مع الضفة أو استقلالها مالياً، وفي هذا الوقت حصل تراجع في الدينار الأردني.
وهنا بدأت الفكرة وبدأ الحُلم مع اليمن، إذ كان مجلس التعاون العربي يضم اليمن ومصر والعراق والأردن، وكانوا أعضاء في هذا المشروع. وبالتالي بدأنا نفتش عن اليمن، وكان الدخول إليها لا يحتاج إلى فيزا أو تأشيرة.
دخلت اليمن في الثالث من يناير عام 1990، قبل إعلان الوحدة بحوالي ستة أشهر، وفي هذا التوقيت كنت أجوب الديار وأتنقل.
رحمة: دعنا نبدأ من البداية ونعيش معك هذه اللحظات. جاءت فكرة سفرك إلى اليمن، ما الذي بدر في ذهنك وأثار قلقك وخوفك؟
إبراهيم العشماوي: الصورة الذهنية عن اليمن: البلد الفقير، الناس يرعون الأغنام وهم حفاة، الحياة هناك صعبة، والدخول في أدغال القبائل. هذه كانت هي الصورة الذهنية، وربما ونحن نازلون من الطائرة...
رحمة (مقاطعة): هل فكرت الذهاب إلى شمال اليمن أو جنوبه؟ ولماذا؟
إبراهيم العشماوي: ذهبت إلى صنعاء، وتجولت فيما بعد في عدن وكل مناطق اليمن.
رحمة: بداية القرار، لماذا كان صنعاء وليس عدن؟
إبراهيم العشماوي: ربما لأن صديقي عبدالله الذي التقيته في عمّان، وهو صاحب مكتبة هو من الحديدة، كان يتحدث معي عن صنعاء، وأن اليمن فيها فرص. وأنا في الحقيقة ذهبت زائرًا لتفحّص الوضع.
رحمة: بعد هبوط الطائرة ونزولك في صنعاء، أين فكرت الذهاب؟ وما هي الأماكن التي زرتها؟ وما هو أصعب موقف تعرضت له؟
إبراهيم العشماوي: أضواء الكهرباء القليلة، وكان الظلام دامسًا أثناء نزولنا من الطائرة ليلًا. نزلنا في "لوكندا" في ميدان التحرير، وحصلت لي مضاعفات صحية، وفي الصباح سرنا في شارع علي عبدالمغني إلى مقهى أزال، ثم إلى فندق سبأ. وكانت الجالية المصرية تجتمع هناك، كان هذا هو برلمان المدرسين المصريين، حتى الخطابات الخاصة بهم كانت تأتي في كرتون ويتم الفرز، كان هذا التجمع الشهري للمصريين. وكانت مصر مشاركة في كأس العالم في ذلك الوقت، وكنا نرى المباريات معًا.
شارع علي عبد المغني في الثمانينات
لكن المفارقات في البداية أنني حدثت لي نوع من الصدمة، البلد بسيطة ولكنها أدهشتني وارتبطتُ كثيرًا بها، ببساطة المباني والناس. كانت صنعاء في ذلك الوقت، المقشامَة مشهورة بزراعة الخضرة، وصنعاء القديمة لوحدها تحفة تاريخية. انشدَدتُ إلى الإنسان اليمني والمعمار اليمني، حتى إن القمرية تشبه عندنا الزخارف الموجودة في المساجد. وكنت أنوي أن أصلي، فجلست أتأمل القمريات، ووجدت أنه حتى البيوت فيها قمريات، وعلمت أنها نوع من الزخارف التي تُدخل الضوء ولها فلسفة معينة. وفيما بعد تكيفت.
رحمة: في الأسبوع الأول من زيارتك لليمن، أين تجولت؟
إبراهيم العشماوي: كنت في صنعاء، في شارع علي عبدالمغني والزبيري، في مقهى الشاي العدني المعتبر.
رحمة: وذهبت لشرب الشاي العدني، وهل شعرت بأنك لم تذق مثله؟
إبراهيم العشماوي: طبعًا، اليمن عمومًا لكل شيء فيه خصوصية وله طعم مختلف، حتى في الملبس. نحن اندهشنا من لبس الفوطة الرجالية لأنها كانت غريبة وتشبه الجيبة التي تلبسها المرأة عندنا.
رحمة: أنتم متعودون على ارتداء الجلابية، واللبس الصنعاني مناسب، أما التعزي فقد كان مختلف. وبالنسبة للنساء، هل رأيت نساءً محجبات كاشفات وجوههن؟
إبراهيم العشماوي: أنا ذهبت إلى اليمن ولم أكن قد تزوجت بعد، وشفت حفاوة المجتمع اليمني واحترامه للسيدات، وكانت من الأشياء التي جعلتني أشعر بنوع من الاستقرار النفسي. هذا المجتمع يشبهني، فيه احترام للسيدات؛ السيدة إذا مرت في الطريق يُفسح لها، وإذا ركبت وسيلة المواصلات لا يجرؤ أحد أن يلتصق بها أو يزاحمها، لها كل الاحترام. حتى في المصالح الحكومية فيما بعد، وجدت المرأة اليمنية تخوض معارك إثبات ذاتها. طبعًا الموروث كان قاسيًا جدًا، المرأة كانت تُورَّث في ذلك الوقت، مثل هذه الأشياء.
رحمة: كيف تُورَّث مثل هذه الأشياء؟
إبراهيم العشماوي: كانوا يعتبرونها مثل الغنائم.
رحمة: هذا في أي منطقة في اليمن؟
إبراهيم العشماوي: في الحكايات التي تتحدث عن المناطق الداخلية مثل الجوف وغيرها.
رحمة: هل بمعنى أن الأخ يتزوج زوجة أخيه في حال توفّي، من أجل الميراث وغيره؟
إبراهيم العشماوي: أنا أقصد أنه لا يُعتدّ لها بحقوق، فكانت مثل المنقولات في المنزل. وفيما بعد أصبحت المرأة اليمنية لها حضور، وتتنقل وتترقى في الوظائف بطريقة لافتة. وخلال 25 عامًا التي قضيتها كنت شاهدًا، والتقيت بالكثير من السيدات.
رحمة: ما أبرز قرار كان فيه تعيين امرأة وأنت كنت موجودًا؟ بالتأكيد كانت أمة العليم السوسوة أول وكيلة وزارة إعلام.
إبراهيم العشماوي: بكل تأكيد، الأستاذة أمة العليم السوسوة، والدكتورة رؤوفة حسن، كانتا في ذلك الوقت من السيدات البارزات. أيضًا الأستاذة فوزية نعمان في التربية والتعليم، والدكتورة بلقيس الحضراني، وأسماء الباشا، وغيرهن كثير من النساء. كثير منهن تعلمن في جامعات مصرية أو عربية أو يمنية.
أمة العليم السوسوة، رؤوفة حسن، فوزية النعمانة بلقيس الحضراني
رحمة: وتعرفت أيضًا على فنانات، من بينهن تقيّة الطويلة.
إبراهيم العشماوي: في رحلتي إلى باريس عام 1994، كنت من ضمن وفد فني، وكانت تقيّة الطويلة موجودة، أبدعت على مسرح في شارع الشانزليزيه، والوفد اليمني أبهر الجميع.
رحمة: في عام 1994، ذهبت مع مَن إلى باريس؟
إبراهيم العشماوي: بعد حرب صيف 1994، وُجّهت لي دعوة من المستشار الثقافي في السفارة اليمنية الدكتور مصطفى عبود، وكان وفدًا يمنيًا من جميع أنحاء اليمن يقدم فنونًا تشكيلية بدعوة من معهد العالم العربي في باريس. وأنا رأيت آلة الطنبور الموجودة في لحج، وهي المرة الأولى التي أراها وأسمع العزف عليها. كانت من الأشياء التي لفتت الانتباه، وبالنسبة للجمهور الفرنسي كان هناك صمت رهيب، ثم تلاه تصفيق حاد. هم لا يعرفون اللغة، حتى الفنان محمد الحارثي كان موجود وكان هناك فنانون كثر ورقصات شعبية. كان في ذلك الوقت موجود الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر رحمة الله عليه، وكان يتواجد في باريس وقتها.
الطنبور
رحمة: ألم يحتجّ أن هناك كان رقص شعبي؟
إبراهيم العشماوي: على العكس، هو كان يعلّق على الرقصات ويعرف تفاصيلها: رقصة المحويت، التهامية، البرع، وغيرها.
رحمة: أنا أقصد الرقصات التي كانت تتواجد فيها النساء، هل النساء شاركن في الرقص؟
إبراهيم العشماوي: شاركن في الغناء، وكانت أصواتهن جميلة جدًا.
رحمة: مَن الذي عزف على آلة الطنبور؟
إبراهيم العشماوي: احد الفنانون الشعبيون المجهولون بالنسبة لنا جميعًا.
رحمة: ما دمت أنك ذهبت إلى فرنسا في عام 1994، فمن المؤكد أنك قابلت الأستاذة خديجة السلامي وكانت امرأة يمنية ودبلوماسية.
إبراهيم العشماوي: بكل تأكيد، وخديجة السلامي من الشخصيات المبهرة، كانت وجهًا مشرفًا لليمن. كنا حينما نلتقي بمسؤولين فرنسيين يشيرون إليها بالبنان، مفتاح العلاقات مع فرنسا كان مفتاحًا ثقافيًا، وكان هذا هو المدخل. وأيضًا الدكتور مصطفى عبود، وهو عالم في مجاله، كان مدخلًا موفقًا.
خديجة السلامي
فرنسا في حرب 1994، حينما كانت تميل الدول الكبرى لكفة الانفصال وخلافه، كانت فرنسا تدرس وتتوانى، وبفضل وجود حتى القائم بالأعمال جازم عبدالخالق الأغبري، كان من أنشط السفراء في ذلك الوقت، وكانوا يعيشون معركة أخرى للدفاع عن الوحدة.
رحمة: لابد من وجود مواقف طريفة حدثت عندما ذهبتَ، الأستاذة تقيّة الطويلة، واليمنيون الذين خرجوا بعد 94 وذهبوا لإقامة احتفالات ومهرجانات في باريس. هل يمكن أن تحكي لنا بعض المواقف الطريفة؟
إبراهيم العشماوي: حينما وصل الباص من المطار إلى شارع الشانزليزيه قرب السكن، وجدوا شابًّا وفتاة يقبّلان بعضهما، وكان هناك صراخ وصياح من قبل اليمنيين، وكانوا يقولون: "يا يهودي! يا نصراني!"، المسألة في غاية الدهشة، وكان بعضهم يضع يده على عينيه حتى لا يرى! كانت المسألة صعبة جدًا، وبعضهم لم يكن قد رأى صنعاء نفسها ولا مطار صنعاء، جاء من الريف، ثم ذهبوا به إلى شارع الشانزليزيه في باريس، أرقى المناطق والمسارح، وكانت صدمة كبيرة. وعندما كانت تقيّة الطويلة تمشي معنا في الشارع تذكرت والدتها وقالت إنها مريضة، فكان من السفير جازم عبدالخالق الأغبري أن أعطاها جهازًا صغيرًا وقال: "كم رقم البيت؟"، وكانت مندهشة لأنه أول مرة تتكلم وهي تسير في الشارع. حتى حينما ذهبت مع الأستاذة خديجة السلامي للتسوق، كانت أول مرة في حياتي أرى الفيزا كارد! لقد كنا مندهشين: كيف عرفت أن هذه هي مشترياتها؟ لم يتم التفاوض، وكانت هذه من الأشياء العجيبة.
الفنانة تقية الطويلية
أتذكر عندما كنا على الطائرة فوق ارتفاع 39,000 قدم، أنهم كانوا يقومون بالبروفة ويغنّون، كانت الطائرة عبارة عن حفلة جميلة، وكانت رحلة جميلة وبديعة.
رحمة: أَلَم يكن في تلك الفترة صراخ بينهم مثلًا: يا شمالي ويا جنوبي؟
إبراهيم العشماوي: أنا أريد أن أقول لك شيئًا: اليمني بالفطرة هو يمني في كل مكان. حتى عندما كنا قبل الوحدة نقول يمني شمالي أو جنوبي، نقول اليمن، فهو موحد حتى في وقت التشطير. ولما نقول "توحدت أيادي سبأ" فهذا تصحيح لمسار التاريخ. الوضع الطبيعي أن اليمن موحدة، واليمن الدولة العريقة القديمة كانت تسيطر حتى على حضرموت وعُمان وتجاوزت إلى الحبشة، فهذه دولة قوية.
رحمة: دعنا نعود إلى زيارتك إلى اليمن في الثالث من يناير، ما هو أول عمل صحفي لك؟ ومتى؟
إبراهيم العشماوي: في الحقيقة، أنا ظللت فترة أسابيع، وانتهت كل الأموال التي معي. مررت على كل الصحف بملفي وقدمت لهم، وذهبت إلى الأستاذ محمد الزرقة رحمه الله، وقال: نحن لا توجد لدينا تعاقدات. وفيما بعد التقيته وقال لي: "والله لم نخسر إلا أنت يا إبراهيم"، وذلك بعد أن أهديته أول كتاب لي "الوحدة اليمنية بعيون عربية" سنة 91، وبعدها كانت أول مقالة نُشرت لي في جريدة الميثاق، وكان حينها الدكتور محمد يحيى شنيف رئيس التحرير.
رحمة: سمحوا لك بكتابة المقال، لكن لم يُسمح لك بالعمل صحفيًا؟
إبراهيم العشماوي: كتابة المقالة، وأول مبلغ أخذته كان 200 ريال من جريدة الميثاق، وهذا المبلغ سددت به المديونية، ثم بدأت أكتب.
رحمة: نريد أن نعرف، مبلغ 200 ريال في 94 كم كانت تساوي؟
إبراهيم العشماوي: كان المبلغ كثيرًا، منه سددت ديونًا كنت قد استلفتها من أحد العمال المصريين، وكنت في هذا الوقت أقيم في "لوكندا" بقيمة 5 إلى 10 ريالات في الليلة. ثم بعد ذلك ذهبت إلى جريدة "الصحوة"، كان الأستاذ علي الواسعي رئيس التحرير، وأنا كنت لا أفهم طبيعة عمل الصحف الحزبية، وأنها لا تشغّل عندها إلا الكوادر المنخرطين في الحزب. لكنه قال لي: مجلة "الإرشاد"، وهي مجلة كانت تابعة لوزارة الأوقاف، وهو كان يرأس تحريرها، قال: "تعال معنا هناك"، وكان فارس السقاف مديرًا للتحرير هناك، وعملت معهم شهرًا واحدًا ثم استغنوا عني.
علي الواسعي
رحمة: هذا كان أول عمل لك، وفي أول شهر عملت مع الأستاذ فارس السقاف وعلي الواسعي، كيف كان العمل؟
إبراهيم العشماوي: أتذكر أني عملت مقابلة مع الدكتور أحمد مستجير، أبو الهندسة الوراثية العربية، والأديب والشاعر الذي عمل علم العروض بالأرقام والإحصاءات الرياضية، وعملت مقابلة مع الدكتور عبدالله النفيسي المفكر الكويتي، وكنت أكتب تقارير في ذلك الوقت. ولكن الدكتور فارس أعطاني 100 دولار وقال إنه صعب الاستمرار بهذا التعاقد، فذهبت إلى جريدة...
رحمة: وكم كانت الـ100 دولار حينها بالعملة اليمنية؟
إبراهيم العشماوي: ما يقارب 900 أو 1000 ريال.
فيما بعد ذهبت إلى جريدة "الثورة"، وكنت أتعامل بالقطعة في الصفحة الرابعة مع الأستاذ عبدالوهاب الروحاني، الذي أصبح وزيرًا فيما بعد، ودكتور، وهو من الصحفيين النابهين جدًا في اليمن، وتعلمت منه واستفدت الكثير، وفي الحقيقة هو احتضنني، ولكن لم يكن هناك مجال للتعاقد.

عبدالوهاب الروحاني

رحمة: هذا بسبب الخدمة المدنية فقط؟ هل يعني ذلك أن الوظائف كانت لليمنيين؟
إبراهيم العشماوي: كانت تُعطى الأولوية لليمنيين، كان هناك طلاب كثير بدأوا يتخرجون من كلية الصحافة والإعلام، وكان هذا حقهم في العمل، ولا توجد هناك مشكلة. وكان هناك سودانيون، وزميلنا محمد مكي أحمد كان في جريدة "الحياة"، ومجد الدقاق كان موجودًا في جريدة "الثورة" قبلي.
رحمة: كم الفترة التي عملت فيها بصحيفة "الثورة"؟
إبراهيم العشماوي: شهور أو أسابيع قليلة، ثم اختطفتني صحيفة "26 سبتمبر".
رحمة: في تاريخ كم اختطفتك جريدة 26 سبتمبر؟
إبراهيم العشماوي: العقد تم إبرامه في 7 مايو قبل الوحدة بأيام.
رحمة: هذا يعني أنك ظللت أربعة أشهر تعاني، 200 من هنا و1000 من هناك.
إبراهيم العشماوي: عقدي في 26 سبتمبر كانت قيمته 3500 ريال، وكان في حدود 350 دولارًا، وكان لدي زميل سوداني...
رحمة (مقاطعة): من الذي استقطبك لصحيفة 26 سبتمبر؟
إبراهيم العشماوي: يعود الفضل للأستاذ عبده بورجي، المدرسة الصحفية الكبيرة، وأنا أعتبره أديبًا ومفكرًا خطفته السياسة والعمل السياسي من الإبداع، وله مكانة كبيرة في قلبي وعند كثير من اليمنيين والزملاء. وكان أول لقاء به عن طريق الأستاذ إسكندر الأصبحي، وربما هو رأى موضوعًا أو حوارًا عملته مع هشام توفيق في جريدة الثورة، وكانت هناك قواسم مشتركة.
عبده بورجي
رحمة: هل أنت قدمت له الملف أم التقيت به في مناسبة؟
إبراهيم العشماوي: أنا قدمت له ملفي وطلب، ولا يزال لدي صورة الطلب حتى الآن.
رحمة: خلال كم ردّ عليك؟
إبراهيم العشماوي: لم يأخذ الرد فترة طويلة، هو رفع لرئيس التحرير العقيد علي حسن الشاطر، رحمه الله، وقال له بأن زميلنا إبراهيم العشماوي من خلال سيرته الذاتية يبدو أنه يمتلك قدرات صحفية، والصحيفة بحاجة إليه، فقال: ضعه تحت الاختبار لمدة ثلاثة أشهر، والثلاثة الأشهر امتدت إلى هذه السنوات كلها.
رحمة: لنعرج الآن الى الوحدة اليمنية، كيف كان وقع إعلان وحدة اليمن عليك كمصري عاصر تجربة الوحدة العربية؟
أريد أن أقول لك إنه في الشارع مشينا بمسيرات تؤيد الوحدة، وفي الحقيقة كنت متأثرًا جدًا، ونحن كمصريين علاقتنا بالوحدة العربية والوحدة السورية المصرية التي انكسرت في وقت من الأوقات، وأيضًا مشاركتنا لأبناء اليمن في تحقيق هدف الثورة وبناء الجمهورية على أنقاض الإمام والرجعية، هذا كان له خصوصية عندنا كمصريين.
رحمة (مقاطعة): ليس فقط المصريين، وأيضًا الفلسطينيين. أنت ذكرت أن الرئيس ياسر عرفات قال: هذه لحمة وطنية وليست الوحدة. وبذل الرئيس علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض جهدًا كبيرًا.
إبراهيم العشماوي: بالطبع، مسارات الوحدة من 1972م، وأنا أريد أن أقول إن الصراعات السياسية والتصادمات في اليمن لم يحدث لها استقرار أكثر من خمس سنوات على مدار هذه السنوات. وحينما ننظر إلى مخاض ثورات اليمن ونضالات اليمنيين من 1948 إلى 1955، "الثُلايا"، إلى انتفاضة القبائل 61، إلى ثورة سبتمبر، إلى ثورة 14 أكتوبر، وصولًا إلى المواجهة مع الملكيين إلى سنة 67 ، واحداث 13 يناير، الحرب بين الشطرين بعد الوحدة، وحرب صيف 94.
رحمة: خلال الثلاث السنوات الأولى للوحدة اليمنية أو الانتعاش الذي شهدته الوحدة، ما أبرز القضايا الصحفية التي تناولتموها بشكل عام؟
إبراهيم العشماوي: كان في هذا الوقت بناء الدولة واستكمال أركان الدولة الجديدة، وكانت هناك مصاعب كثيرة جدًا، لأن وجود عدد كبير من الموظفين، وخصوصًا من أبناء الجنوب، أرهق ميزانية الدولة، والتزمت الدولة للجميع بحيث لا تضر أحدًا، لا ضررًا ولا ضرارًا، فكان الجهاز الإداري متخمًا.
رحمة: هل كان حوالي مليونين؟
إبراهيم العشماوي: كانوا مليونًا وقليلًا.
رحمة: هل هم  غير الذين كانوا في 1986؟
إبراهيم العشماوي: بالطبع، كان العدد هذا إلى جانب الإمكانيات الاقتصادية للدولة، كانت صعبة. وأذكر في وقت الحرب وما بعد الحرب أن البنك المركزي لم يكن فيه قطاع مالي بالدولار يغطي لبضعة أسابيع لشراء القمح، وكان هذا الوضع يستدعي إصلاحات اقتصادية، وكان وضعًا صعبًا، وكانت هناك تحديات كبيرة جدًا لبناء الدولة. لقد كان لدينا من كل شيء اثنان، والآن يفترض أن تكون واحدة. وبالتالي، دولة الوحدة لم تضر أحدًا، ولكن كانت هناك تباينات. تصادف مع تحقيق الوحدة اليمنية حرب الخليج التي ضرت التطورات في اليمن، وأريد أن أقول إنها آذت الوحدة اليمنية، بمعنى أن الموقف الذي اتخذته اليمن لم يكن دعمًا لصدام، بقدر ما كان رفضًا للوجود العسكري الأجنبي. وفي هذا الوقت خسرت اليمن، وخسر مليون يمني أعمالهم في الخليج. وأنا من الموضوعات التي عملتها، ذهبت إلى منفذ الطوال وأجريت مقابلات مع اليمنيين العائدين من السعودية، وكان البكاء والانهيار والمسألة صعبة جداً، لأن لا ذنب لهم. وكان في هذا الوقت خسروا التحويلات التي كانت بالمليارات تدعم الموازنة. كانت هناك مزايا لليمنيين في دول الخليج، وكانت مرتبات المعلمين العرب تدفعها السعودية والكويت والإمارات، وتوقفت، فواجهت دولة الوحدة مصاعب ضاعفت من آلامها. وهذه من الأمور التي جعلت الاقتصاد في اليمن يتدهور، وهو جزء من الأزمة السياسية التي حدثت فيما بعد، وهي اعتكاف علي سالم البيض في عدن، والاتفاق على وثيقة العهد والاتفاق.
توقيع وثيقة العهد والاتفاق
رحمة: وتدخل الدول الإقليمية في شأن اليمن ودعم الانفصال. عندما كنتم تقومون بتغطية الأخبار، لاحظتم مجلس النواب، كيف كان يمثل الآراء، وكان حينها برئاسة الدكتور ياسين سعيد نعمان، تشعر بأنه مجلس نواب لدولة ديمقراطية حقيقية فيه مختلف الآراء.
إبراهيم العشماوي: أنا أريد أن أقول، وفي الحقيقة، إن اليمن هي بلد الحريات بعد الوحدة. خرجت كل الأحزاب من الظلام إلى النور، وأصبح لدينا من 40 إلى 50 حزبًا، و من 80 إلى 90 صحيفة، نتحدث عن حالة انفتاح وحالة تنفس كانت تناسب دولة الوحدة. وهذا انعكس في البرلمان، فتجد أقصى اليمين وأقصى اليسار موجودين داخل البرلمان، الملاسنات والنقاش. جاءت انتخابات 1993 البرلمانية، وأنا أعتقد أنها كانت أهم تجربة انتخابية في تاريخ اليمن الموحد. لماذا؟ لأنها أفرزت ما لم يستطع أي حزب سياسي أن يشكل بمفرده حكومة، فاضطر إلى التحالف، وتحالفت الأحزاب الثلاثة: المؤتمر الشعبي العام، والتجمع اليمني للإصلاح، والحزب الاشتراكي. هذا التحالف كانت تجربة كنت أسميها ثوب الديمقراطية الفضفاض على جسد اليمني النحيل، الذي كان في بداياته. مخاض التجربة كان صعبًا في هذا الوقت، لأنه ربما البلد كانت تحتاج إلى نوع من الربط أكثر وتنظيم أكثر. وكتجربة ديمقراطية كانت سابقة لعصرها بكثير.
رحمة: كصحفي، ما أبرز ما لفت نظرك وأنت تغطي انتخابات 1993؟
إبراهيم العشماوي: بساطة الناس وإقبالهم، وبالطبع كانت هناك مفارقات طريفة، مثلًا سيدات في صنعاء القديمة يقفن في الطابور ويعتقدن أن هذا طابور للمساعدات. ورأينا الرئيس علي عبدالله صالح وهو يقف في الطابور مثل أي مواطن. التجربة ونحن نغطي المرشحين ووكلاءهم، كان التوازن موجودًا في المجتمع اليمني في هذا الوقت. المراقبون العرب والدوليون شهدوا شهادات موثقة في هذا الجانب، كانت لصالح التجربة اليمنية. ومن هنا بدأت بعد الانتخابات وحرب 94، بدأت اليمن توقف نزيف الاقتصاد ببرنامج إصلاح اقتصادي دفعت فيه ثمنًا باهظًا، ولكن كانت الدولة اليمنية موجودة. ومن هنا بدأت الخطة الخمسية الأولى والثانية والثالثة، وكانت هناك خطط اقتصادية تم تقييمها ومتابعتها بالشراكة مع الشركاء الدوليين.
رحمة: عندما جاء إعلان الانفصال وحرب 94، خلال هذه الفترة، أنت لم تزر عدن، أليس كذلك؟
إبراهيم العشماوي: في وقت الحرب لا، ولا حتى قبل فترة الحرب، ولكن بعد الحرب حضرت بداية مؤتمرات للغرفة التجارية في عدن.
رحمة: وهل غطيت أو أعددت أخبارًا صحفية وتقارير من عدن؟
إبراهيم العشماوي: بالطبع، لكل الفعاليات التي كانت تجري في عدن.
رحمة: أنا أقصد أثناء الحرب.
إبراهيم العشماوي: أثناء الحرب لا، لأنه غير منطقي أن أكون أعمل في التوجيه المعنوي في صنعاء وأسافر إلى عدن في هذا الوقت. نحن كنا نستقبل الصحفيين المصريين والعرب الذين كانوا موجودين ويذهبون إلى الجبهة، ونحن عشنا أيام رعب شديدة وقاسية، وكانت المضادات قوية حول صنعاء، وصواريخ "سكود" التي كانت موجودة في قاعدة العند والموروثة من فترة طويلة. أنا كتبت موضوعًا حول الصاروخ الذي نزل في منطقة القاع، والذي أحدث حفرة كبيرة في الأرض، وأكثر ما آلمني زجاجة فيها حليب أطفال لطفل، واثنان من العرسان في شهر العسل هُدم عليهما المنزل بسبب هذا الصاروخ.
حرب 1994
رحمة: وحتى في عدن، أنت لم تكن موجودًا هناك، ومن المؤكد أنهم كانوا يعانون من نفس المشاكل المتمثلة بإطلاق صواريخ من الشمال.
إبراهيم العشماوي: في عمران كان المنظر القاسي جدًا أن تنكسر دبابة إلى نصفين، كانت المسألة صعبة، وربما تأخر اندماج وحدات الجيش كان جزءًا من المشكلة.
رحمة: وحتى في الانتخابات، الحزب الاشتراكي أصرّ على أن تكون دوائره الانتخابية في الجنوب، وهذا ترسيخ للتقسيم.
إبراهيم العشماوي: من الممكن أن تكون هناك ملاحظات هنا وهناك.
رحمة: حتى اتفاق المؤتمر الشعبي العام والإصلاح ضد الحزب الاشتراكي كان غير عادل.
إبراهيم العشماوي: طبعًا، في الوقت هذا، وللأمانة، كان الحزب الاشتراكي قد دفع ثمن اغتيال عدد كبير من قادته، كنا نتابع هذه المسألة.
رحمة: قبل الاغتيالات نريد أن نعرف شيئًا: عندما رأيت الرئيس علي سالم البيض يعلن الانفصال، أنت على المستوى الشخصي، بماذا شعرت؟
إبراهيم العشماوي: كنا في لحظة انكسار، وكانت المسألة هذه كالصاعقة، ولم نصدق أن هذا الحلم يمكن أن يتبخر بهذه السهولة! كيف فعلها اليمنيون؟ كان هذا السؤال. وكل شيء يهون مقابل بقاء الوحدة، هناك أخطاء ولابد أن تُصحح، وأسلوب في إدارة الدولة، ربما كانت هناك شكاوى لعلي سالم البيض بأنه كان على الهامش وغير مشارك، وحاجات كثيرة مقبولة فيها النقد لصالح الدولة، ولكن أن يُهدم المعبد على من فيه، هذه كانت الكارثة الكبرى. حتى كنا نكتب تعليقات للإذاعة، وأتذكر طرفة: ونحن أثناء الحرب كان ممنوع التجوال في صنعاء، وكنا ماشين في منطقة هائل، وأغلب سكانها كانوا من الحزب الاشتراكي، وكنا نوصل أحد زملائنا من التوجيه، وكنت أنا وزميلي السوداني عثمان تراث، رفيق الرحلة في 26 سبتمبر، وجدنا سيارة من العمليات الداخلية، فقالوا: "يا فندم، مسكنا اثنين انفصاليين، واحد سوداني وواحد مصري". كنا نقول لهم: "نحن لسنا انفصاليين"، وشرحنا لهم، ولما قلنا لهم كلمة السر وكلموا عمليات القوات المسلحة تركونا.
الرئيس علي سالم البيض
رحمة: كصحفي تابعت الحروب في دول عربية مختلفة وحول العالم، ألا تلاحظ أن الحرب اليمنية استمرت شهرين فقط؟ وهذا يعني أن هناك إدارة معينة خففت من إطالة أمد الحرب والخسائر، خاصة أن هناك دولًا إقليمية كانت تدعم الانفصال؟
إبراهيم العشماوي: هذا صحيح، وأنا أريد أن أقول لك، وكما سماها السفير عبد الولي الشميري: ألف ساعة حرب. لخص الوقت هذا كله، وأريد أن أقول لك: من فضل ربنا سبحانه وتعالى، كان من الممكن أن تستمر كثيرًا، لأنه في تاريخ الحروب اليمنية من 62 إلى 70، حرب بين ملكيين وجمهوريين، وهم في الأخير يمنيون، وهذه فترة طويلة. وجزء كبير من دهاء وذكاء الرئيس علي عبدالله صالح والقيادة العسكرية أيضًا يُشهد لهم. ولم يكن كل الجنوبيين مع الانفصال، ولكن جزء كبير منهم، وجزء آخر كانوا يقاتلون ويدافعون. والقصة هنا لم تكن بعد محاصرة عدن، وكانت الدول الكبرى ودول الإقليم تريد أن تُقرّ بالأمر الواقع وتعيد الانفصال مرة أخرى، لكن تم التعجيل بدخول عدن بطريقة درامية.
رحمة: هذا يعني أنه تم الاتفاق مع قيادات المعسكرات، ولم يتم استخدام العنف المفرط، وبالتالي مُنح الآخرون الأمان إذا سلموا معسكراتهم. وأتذكر الأستاذ محمد قحطان، الله يفك أسره، سبق وأن حدثني عن بعض هذه النقاط.
إبراهيم العشماوي: تم العفو العام، والحرب لها تبعات، ولم تكن نزهة. هناك دم يمني أُزهق وأُرهق، وهناك مقدرات ضاعت، مبانٍ وقدرات الجيش اليمني. وهذه المسألة لا يمكن أن نحتفل بالحرب، ولكن فكرة أن هذه الحرب من أجل تثبيت الوحدة والدفاع عن الوحدة والحفاظ على الكيان اليمني الذي أراه اليوم مهددًا بفعل أبنائه، هذه مشكلة كبيرة جدًا. حرب الانفصال فُرضت على القيادات اليمنية؛ تطور الأزمة والاعتكاف والاعتقال والمواجهة وسحب القوات وسحب الوزراء وخلافه كانت مشكلة كبيرة جدًا أدت إلى ذلك. ويا ريت أن ندرس المعارك والمواجهات ونستفيد منها.
رحمة: لو كنا نستفيد، لما كنا كل خمس سنوات أو عشرين سنة في حرب. ولكن هناك سؤال في رأسي: أنت كصحفي بارز وكمراسل لصحف عربية، نقول من 1995 إلى 2002 أو 2003، بداية أزمة الحوثيين، ما هي أبرز القضايا التي تناولتها وأبرز المشكلات التي ظهرت على سطح اليمن؟
إبراهيم العشماوي: أنا في هذا التوقيت، صحيفة «26 سبتمبر» لها أسلوبها كصحيفة وطنية متزنة، تدافع عن سياسات الدولة، وتُظهر الإنجازات، وما تحقق فيها مساحة من النقد وتصحيح المسار. ولديهم استقلالية في الرأي. هذا بالنسبة لصحيفة «26 سبتمبر». كان هناك الحراك الداخلي وقضايا الانتخابات من 93 و97 وحتى 2006، التي كانت آخر انتخابات رئاسية حقيقية.
رحمة: نحن نريد أن نسير من 95 إلى 2000، كانت انتخابات 97 هي الأبرز.
إبراهيم العشماوي: كانت الانتخابات، وأيضًا منهج القيادة اليمنية المتوازن في حل مشاكل الحدود. نحن لدينا من 1992 حل مشكلة الحدود مع سلطنة عمان وتوجت فيما بعد بتبادل الخرائط في 97، ثم في 98 حينما تحرشت إريتريا بجزر حنيش وادعت ملكيتها، تم حل المسألة بالتحكيم الدولي، وخبراء مصريون شاركوا، من ضمنهم الدكتور مفيد شهاب.
رحمة: أنا أعتذر على مقاطعتي لك، ولكن نحن سرنا على موضوعين أساسيين ولابد أن نعطيهما حقهما، وهما ترسيم الحدود مع عمان ومع السعودية. أنت الآن في مصر ولست في اليمن، هل ترسيم الحدود مع هاتين الدولتين تم بشكل نافع لليمن ويعود بالفائدة عليه، أم تم التفريط بأراضٍ يمنية؟
إبراهيم العشماوي: ترسيم الحدود يؤدي إلى استقرار سياسي واقتصادي وتعامل صحي مع الجيران. وترسيم الحدود مع عمان لم تكن فيه مشاكل كثيرة، رغم القلق من تحرير ظفار الذي كان موجودًا، وتم تأمين هذه المشكلة. مع جزر حنيش كانت هذه مسألة مهمة لتأمين الملاحة في البحر الأحمر، وسيطرة اليمن على المياه الإقليمية، وهذا حقها الطبيعي. أما بالنسبة للسعودية، فكانت هناك أقاويل كثيرة، لكن ماذا تعملين إذا كانت اليمن معاهدة «الطائف 34» أنهت الحديث والجدل؟ هذا تعامل دول. لكن من المهم فيما بعد، وكانت هذه المسألة - أتذكر أن الرئيس علي عبدالله صالح، رحمة الله عليه - دعا الأمير عبدالله لاحتفالات عيد الوحدة العاشر، وكانت احتفالات الوحدة كبيرة، وأتذكر بعدها سافر إلى السعودية وتم حل مسألة الحدود. وهذه مسألة في غاية الأهمية، لأنها جعلت الدولة اليمنية تنظر إلى قضاياها وأولوياتها بشكل طبيعي، وجعلت الجيران أنفسهم يعترفون بأن هذه حدود الدولة اليمنية، ولا يمكن لأحد أن يمسها. وحدة الأراضي اليمنية أصبحت مسألة هوية وطنية لا يمكن أن تكون محل شك، وهذه القيمة في ترسيم الحدود. وبالعودة إلى التاريخ، فإن القول إن اليمن يمكن أن تستعيد مناطق معينة، هذا كلام بعيد عن الواقع والمنطق والعهود الدولية والاتفاقيات والوثائق التي أُبرمت.
رحمة: ولكن بعد المعاهدات التي تمت وترسيم الحدود، لا تزال العلاقة مع الجيران غير صحيّة، وظهرت مع 2011، وبالتالي لم تمر 11 عامًا إلا وظهرت أزمة مع الجيران.
إبراهيم العشماوي: تباين المصالح... أنا أتذكر مثلًا ونحن نغطي اندماج اليمن في منظومة مجلس التعاون العربي، اليمن من حقها جزء من المنظومة...
رحمة (مقاطعة): جزء من المكون الجغرافي والثقافي.
إبراهيم العشماوي (متابع): حتى ثروات اليمن الطبيعية فيها نفط مثل دول الخليج، لكن لم يُستخرج بعد، الصخور الـ...
رحمة (مقاطعة): لماذا هذا الجفاء في التعامل مع اليمن؟ لماذا تركوا اليمن لدول اقليمية أخرى تستوعب وتغرقه بالطائفية؟
إبراهيم العشماوي: دائمًا هناك قلق من أن تُصدر اليمن ثورتهم. دائمًا النظام السياسي في اليمن أو النخب السياسية تتحدث وتنشئ الأحزاب وتتكلم، وهذا مختلف عن النمط الخليجي تمامًا. وبالتالي كان يُخشى - وما يزال - من أن هذه النار تلحق بالثوب الخليجي الهادئ المستقر. وكانت اليمن بالنسبة لبعض دول الخليج دولة مشاغبة وتُصدر المشاكل، لكن على الرغم من ذلك، العمالة اليمنية في دول الخليج هي التي تقوم بالتنمية الاقتصادية هناك. على أكتاف اليمنيين تقوم النهضة في كل دول الخليج، ومشهورون بأمانتهم ونجاحهم، وهذه تُحسب لليمنيين. اليمن لديها ثروات لا تقل عن دول الخليج، ولكن الصراعات السياسية هي التي أجّلت وأبعدت اليمنيين عن الاستفادة من خيرات بلادهم.
رحمة: أنت ذكرتهم في كتابك، وسوف نتطرق له، ولكن نريد أن نغلق القضايا التي كانت بارزة، وهي ترسيم الحدود، وانتخابات 1997 الأبرز. بعد 2000، التغطيات الصحفية والإعلامية في اليمن كانت تتجه بأي اتجاه؟
إبراهيم العشماوي: أنتِ تقصدين الوضع السياسي مع تشكيل المعارضة السياسية، تحالف اللقاء المشترك. هنا بدأ الوضع يأخذ مسارًا مختلفًا، والمعارضة في اليمن أعتقد أنها معارضة قوية، ليس في أطرها الحزبية فقط، ولكن في أطرها القبلية والجغرافية أيضًا.
رحمة: أنت رأيت حينها الانتقادات التي كنا ننتقد بها علي عبدالله صالح ونكتب عليه، ونأتي إلى التوجيه المعنوي، ويتعاملون معنا بحفاوة شديدة.
إبراهيم العشماوي: صحيح، أنا أذكر ليس فقط الرئيس، وإنما أيضًا الأستاذ علي العلفي، رحمه الله ، صاحب صحيفة «الرأي العام». عندما ذهبنا إلى عدن في ورشة لرؤساء تحرير الصحف اليمنية، كان المفروض أن يُعطوا للصحفيين 100 دولار من أجل التجول في مشاريع البنك الدولي في عدن، وكان العلفي حينها رجلًا متعبًا ولم يستطع النزول، فلم يُسلَّم له الـ100 دولار، فزعل جدًا، وفي المنشيت الذي بعده كتب: «البنك الدولي يسرق الرأي العام».
عدن
رحمة: لاحظ، على استفزاز، لم يكونوا متخصصين فقط بعلي عبدالله صالح، وكذلك بالمنظمات الدولية. ولكن كانت هناك مساحة تعبير إلى حد ما.
إبراهيم العشماوي: طبعًا، وأنا أريد أن أقول لمسنا هذا بأنفسنا، كنا نرى جريدة «الثورى» و«المستقبل» و«الحق»، كان هناك مناخ يسمح بذلك، والتعددية تسمح بذلك. والحقيقة أن ذلك ميّز التجربة اليمنية، أن اليمن دُعيت إلى قمة العشرين المعروفة بكبار دول العالم، كإحدى دول الديمقراطية الناشئة. وهذا كان مكافأة لليمن وتقديرًا لهذه التجربة، لأنهم وجدوا في اليمن ما لم يجدوه في دول عربية كثيرة جدًا. إطلاق الطاقات والحريات والتعبير كانت هذه المسألة متاحة وميسرة، ولم يكن أحد يشعر بالقلق من أي شيء، وكانت المسائل تُدار بتوافق ديمقراطي واجتماعي. هذا التوازن هو رأس مال الاستقرار في اليمن.
رحمة: كلما كانت هناك دولة قوية، كانت هناك معارضة أقوى، وهذا ما كان يميزها. ولكن عندما ذكرت 2001 ومشاركة اليمن في قمة العشرين، جاء إلى ذهني الحرب على الإرهاب التي تزامنت مع 2001.
إبراهيم العشماوي: اليمن حظها سيئ، لأنه - يبدو - ان تضاريس اليمن، الجبال والسهول والقبائل، هذه التركيبة أغرت التنظيمات الإرهابية مثل تنظيم القاعدة وخلافه، بأنه يمكن أن يُنشئ ولايات في اليمن. وبالتالي، علاقة اليمن بالإرهاب منذ سنة 92، تفجير فندق عدن، الباخرة «لمبرج»، وعمليات الاغتيالات التي كانت موجودة، نشوء تنظيمات بمسميات مختلفة: أنصار الشريعة، جيش عدن أبين... كانت كلها مسميات بعيدة عن تركيبة المجتمع اليمني، لكنها تحاول أن تستغل أولًا فقر اليمنيين وحاجتهم، وتستغل ما يسمى «الإجارة»، أو أن يُجير الشيخ أشخاصًا معينين ويمنعهم عن الدولة، فكانوا يستفيدون هم.
رحمة: ولكن أكيد أن الفكر المتشدد هو الذي يُغذي هذه الجماعات، والفكر المتشدد دخيل على اليمن وليس من طباع اليمنيين.
إبراهيم العشماوي: بالطبع، لأنني وجدت اليمن بلاد التسامح. لم أكن أعرف، وأنا أصلي في أي مسجد، إن كان هذا شافعيًّا أو زيديًّا أو خلافه، لا مسميات مطلقًا. وكانت روح التسامح موجودة، واليمن نشأت فيها ديانات مختلفة، حتى يهود اليمن الذين يمثلون أقلية، هذه الأقلية حمتها الدولة ورعتها، محافظةً عليها. وعلى فكرة، كانت لهم مواقف مع الدولة اليمنية وفلسطين وضد إسرائيل، وكنا نتعجب من ذلك.
يهود يمنيين
رحمة: هذه من الأشياء الغريبة في اليمن.
إبراهيم العشماوي: مثلًا كانت هناك طائفة البُهرة، كان هناك تسامح، وكان الناس يأتون ويقيموا طقوسهم، وكان عددهم في اليمن ما يقارب 300 او 400 الف مواطن يمني ينتمي إلى هذه الطائفة، ولم تكن هناك أي مشكلة.
رحمة: ولم نكن نعرف «سُنّي»، «شيعي»، «أحفاد رسول الله»، «أحفاد اليهود»... لم تكن لدينا هذه المسميات.
إبراهيم العشماوي: الخطر الكبير للفتنة الطائفية في اليمن بدأ مبكرًا من ثورة الخميني.
رحمة: نحن نريد تناول هذا، ولكن في الحلقة القادمة، وسنكمل هذا النقاش. وصلنا إلى 2013، وأنت كنت موجودًا في اليمن، ورأيت إلى أين وصلت. بعدها سنتناول الكتب التي تناولتها عن اليمن، ونحن متشوقون لمعرفة تفاصيل عنها.
مشاهدينا، حكاية اليمن بلسان إبراهيم العشماوي لا تُملّ، وما زال لدينا الكثير من التفاصيل. وصلنا الآن إلى 2001، وسنتناول الحوثيين و2011 والمبادرة الخليجية، ولكن في الحلقة القادمة.
ينشر هذا الحوار بالتزامن مع بثه على قناة "حكايتي" على يوتيوب، إعداد وتقديم الإعلامية رحمة حجيرة. لمشاهدة الحلقة (اضغط هنا)

الكلمات الدلالية