صنعاء 19C امطار خفيفة

جمال عبد الناصر.. 55 عامًا من الخلود(6)

هل كان عبدالناصر ديكتاتورًا؟!

قراءة في ملامح شخصيته الإنسانية!

سعى خصوم عبدالناصر إلى وضعه في صورة "الدكتاتور" قاسي القلب، غليظ الطبع، لا سبيل للرحمة أو الشفقة إلى قلبه؛ بما يسوّغ بعد ذلك اتهامه بانتهاك الحريات، والتضييق على معارضيه... إلخ! غير أن الشهادات المتواترة لمن عرفوه عن قرب أو عملوا معه أو التقوه، تكشف صورة مغايرة تمامًا، هي على النقيض من ذلك.
كل الذين قابلوا عبدالناصر يجمعون على بساطته، وتواضعه الجم، وتلطفه الشديد معهم، وبشاشته الدائمة -وهي ظاهرة بحد ذاتها جديرة بالتأمل- وفي كل الصور المنشورة له يبدو على الدوام مبتسمًا طلِق الوجه، يشعّ بريق عينيه أُلفة وصفاء، ما يشف عن باطنه وسريرته. يقول الكاتب البريطاني ويلتون واين: "لقد قُلت غير مرة إن سحر شخصية عبدالناصر يَفتن كل من يقابله. وأنا لا أذكر أنني رأيت رجلًا تَحدّث إليه ثم خرج من عنده وهو غير مُعجب به".
في حياته الخاصة عاش عبدالناصر حياة هادئة بسيطة في بيته كأي أب من الطبقة الوسطى المصرية. حريصًا على الجلوس إلى مائدة الأسرة كلما سنحت الفرصة، وعلى وجه خاص طعام الغداء، وكان طعامًا بسيطًا لا يختلف عما هو موجود في بيت أي مواطن عادي، ولا ينسى أن يتابع أحوال أولاده وظروف دراستهم ما استطاع، متلطفًا مع العاملين معه والقريبين منه إلى أبعد مدى. يقول الدكتور الصاوي حبيب، طبيب عبدالناصر: "كانت البساطة هي السمة المميزة لجمال عبدالناصر، في مسكنه وملبسه وطعامه، وحتى في طريقة عرض الأوراق والتقارير عليه... وبالنسبة لملابسه فقد كانت صناعة مصرية مما لدى أغلب أبناء الشعب... وكان يتعامل مع الجميع باحترام، ولذلك كان الجميع يتفانون في خدمته بإخلاص شديد... وفي الواقع أنني لم أره منفعلًا أو عالي الصوت داخل منزله، كما لا أذكر أنه عاقب أو فصل أحدًا ممن يعملون معه... ويتغاضى عن أي خطأ غير مقصود". ويقول ويلتون واين: "إن كُره عبدالناصر لمظاهر العظمة هو إحدى الخصائص القوية التي تكوِّن شخصيته... وزيارة إلى منزل عبدالناصر تظهر لكل امرئ كيف احتفظ الرجل بحياته البسيطة منذ توليه مقاليد السلطة... لا يستعمل التعابير الطنانة، ولا يمتدح نفسه وأعماله، وعلى العكس إنه متواضع أبدًا، سريع إلى الاعتراف بأخطائه".
ويقول سامي شرف، سكرتير الرئيس للمعلومات: "كان عبدالناصر رب أسرة بسيطة، متواضعًا، غير متكلف، لم يحي في بذخ: ملبس بسيط، طعام بسيط. لم يخرج عن حدود معينة في ساعات ضيقه، لا يرى أحدًا وهو في حالة غضب... تميّز بصدقه المطلق... مرحًا حتى وهو يصارع أعداء الأمة، وهو يصارع المرض... كان يعرف أسماء العاملين معه، الصغير قبل الكبير، كما يعرف أسماء أبنائنا وبناتنا، ويتابع أخبارهم في الدراسة وفي حياتنا الأسرية والاجتماعية... ويجاملنا في كل المناسبات والأحوال، تجد باقة ورد وعليها الكارت باسمه تصل إلى منزلك أو إلى غرفة المستشفى الذي تعالج فيه... أو مساعدة مالية تتمشى مع المناسبة".
وفي وصف بعض الجوانب الإنسانية في شخصية عبدالناصر، يقول صلاح الشاهد، كبير الأمناء في رئاسة الجمهورية: "كان حنانه [أي عبدالناصر] جارفًا لكل من عمل معه بلا استثناء... أُصبت بذبحة صدرية... فبعث الرئيس إليّ بالأطباء والمعالجين... وكان يسأل عني 3 مرات يوميًا. وبعد شفائي زرته... فاحتضنني وقبّلني، وقال إنه يشعر بالسعادة لشفائي، وطلب مني ألا أجهد نفسي، ولا أنزل سلم قصر القبة لاستقباله، وألا أعمل بعد الساعة الثامنة مساء بأي حال من الأحوال.. وكان إذا رآني في مأدبة رسمية طلب منّي مغادرة المكان فورًا، والذهاب للمنزل للراحة، وأرسلني عدة مرات إلى الخارج للعلاج، مع أنه كان يرهق نفسه أيّما إرهاق... كان ذا قلب كبير يقدم للفقير والمحروم كل ما يستطيع من نفوذ ليخفف أزمة أو يزيل حرمانًا... وكما كان عطوفًا على الذين يعملون معه، كان أيضًا حريصًا على صحتهم... عندما كانت تجرى المباحثات بين مصر وسوريا والعراق... حدث أن امتدت المباحثات إلى ما بعد منتصف الليل، وبرغم انشغال الرئيس في المباحثات، أرسل لي ورقة كتب فيها: عم داوود، علي رشيد، رشاد حسن ينصرفون إلى منازلهم، لأننا سنتأخر بعض الوقت. وعم داود كان حاجبه الخاص، وعلي رشيد كبير الأمناء، ورشاد حسن كبير الياوران، وكانوا جميعًا من كبار السن!... كان مؤدبًا جدًا، يحترم كبار السن، يحادثهم وعيناه في الأرض، ويكلّم كل إنسان باحترام...".
وفي نطاق عمله وعلاقاته مع الوزراء والقادة، وعلى خلاف الصورة النّمطية للحاكم المتسلط، تؤكّد شهادات عدد من المسؤولين أن عبدالناصر كان راقيًا مهذبًا في تعامله معهم. يقول د. مراد غالب: "كثيرون يعتقدون أن عبدالناصر رجل يبعث الخوف في من يعملون معه، ولا يعرف سوى إصدار الأوامر والطاعة العمياء... وهذا زعم لا أساس له. كان تعاملي معه مريحًا للغاية، فقد كان رجلًا واضحًا وصريحًا يعرف من يتعامل معه ما يريد بشكل مباشر". ويقول وزير الداخلية شعراوي جمعة: "كان يثق في الرجال الذين يعملون معه، ويحاسبهم بشدة إذا اقتضى الأمر، وكان لا يستمع إلى أية وشاية ضدهم في الوقت نفسه، وقد حدث معي ما يثبت ذلك، ويقدم البرهان الساطع على ما أقول".
في سيرته عشرات المواقف الدالّة على شعوره العالي بالمسؤولية تجاه مواطنيه، وحِسّه الأبوي تجاههم. فمثلًا كان يسهر قَلِقًا حتى يطمئن إلى عودة أصغر دورية عسكرية سالمة من مهامها، إذا علم بها. يقول شعراوي جمعة: "كان لا ينام إذا عرف أن دورية مصرية عَبَرت إلى سيناء، إلى أن يتأكد أن هذه الدورية قد عادت، ويطمئن على سلامة أفرادها مهما كان حجم هذه الدورية... وربما كان قائد الوحدة أو قائد الجيش قد نام، ولكن جمال عبدالناصر كان يظل متيقظًا وعلى اتصال مستمر مع الفريق أول محمد فوزي، القائد العام للقوات المسلحة، إلى أن يطمئن إلى أن القوات عادت بسلام".
كان تواضعه وبساطته العفوية صورة لنبله. يأنف من المبالغة في طقوس ومظاهر الاحترام والتبجيل، ويمقت ذلك. يقول سامي شرف: "كلّفني جمال عبدالناصر أن أبلغ كل من يدخل مكتبه أو بيته كمرشح لمفاتحته في أي تشكيل وزاري أو عند حلف اليمين، ألا ينحني، بل يظل واقفًا منتصبًا".
وكان كريم النفس لا يقبل إهانة أي أحد على أي نحو، ولو حتى بمجرد التلميح، يقول د. الصاوي حبيب: "سمعته ينتقد السيد حسن التهامي، أمين عام الرئاسة، في محادثة تليفونية، لأنه استأذن من الملك السنوسي -وكان لاجئًا في مصر بعد ثورة ليبيا- في استعارة الكابينة المخصصة له في المنتزه لمدة يوم، ليقيم فيها بصفة مؤقتة الملك حسين ملك الأردن في ذلك الوقت، والذي كان في زيارة للقاهرة، ويرغب في قضاء يوم في الإسكندرية، وكانت وجهة نظر عبدالناصر أن الملك السنوسي في وضع لا يسمح له بالرفض، لأنه لاجئ في بلادنا. وكذلك انتقده في محادثة تليفونية، لأن رئيس وزراء دولة آسيوية تمت استضافته في فندق هيلتون النيل، مع أنه سبق استضافته في أحد القصور قبل ذلك، مما يضعه في منزلة أدنى في الزيارة الثانية عن منزلته في الزيارة السابقة".
تُسجّل الشهادات أن عبدالناصر كان حكيمًا وحليمًا حتى في غضبه. يقول السفير الأمريكي جون بادو متحدثًا عن فترة زاخرة بالأزمات مثل الانفصال السوري وحرب اليمن: "إن عبدالناصر لم يكن في أي وقت من تلك الأوقات متوترًا أو عصبيًا أو منفعلًا، وإنما كان يبدو هادئًا رصينًا يختار كلماته الإنجليزية بعناية، ولا يفوته أن يظهر الودّ لِمُحدِّثِه... كان دائمًا متحكمًا في ردود أفعاله، حتى حين كان هناك ما يغضبه... إنه كان يظهر الكثير من الاحترام لمرؤوسيه، فلم يكن يسيء إلى أحد من العاملين معه أمام زائريه... والصورة التي يحلو لأعداء عبدالناصر أن يرسموها له كانت صورة زائفة تمامًا".
ويقول محمد حسنين هيكل: "أشهد أن جمال عبدالناصر كان نموذجًا للرِّقّة في معالجته لحالات التوتر التي تَحدُث، وفي استمرار لم يكن يخرج ضيقه عن حدود معيّنة. وأتذكر أنه مرة كان متضايقًا جدًا من أمور كتبتها. وخلال مناقشة عبر الهاتف سألته إذا كان يريد أن أحضر إليه، فأجابني: لا أريد أن أراك وأنا منرفز، نلتقي بعد أن تهدأ الأمور ثم نتفاهم".
من أبرز الملامح التي تؤكدّها شهادات المقرّبين منه، هي نفوره من العنف وإراقة الدماء. فعند قيام ثورة يوليو كان حريصًا ألا تراق قطرة دم واحدة، وعندما انتصرت الثورة، واستولى الجيش على السلطة، كان بعض الضباط الأحرار يرون محاكمة الملك فاروق وإعدامه، ولكن عبدالناصر عارض الفكرة، وكان رأيه أن يسمح له بالمغادرة إلى الخارج، وقال لزملائه: "إن الدم لا يؤدي إلا إلى مزيد من الدم... هل قرأتم كتاب تشارلز ديكنز قصة مدينتين؟ علينا أن نتعلم درس الثورة الفرنسية، وإلا ما فائدة التاريخ".
وفي كتابه "مصر الفتيّة"، يروي الكاتب الإنجليزي ديزموند ستيوارت أنه أجرى حوارًا مع عبدالناصر، وسأله عن الشخص الذي حاز إعجابه من بين قادة الثورة الفرنسية، هل "دانتون" أم "روبسبير"، فكانت إجابته: في الحقيقة لا هذا ولا ذاك. إنني أعجبت بفولتير لأنه كان رجلًا هادئًا، ولم يكن قاسيًا، أما الباقون فقد كانوا دمويين للغاية، فقد قتل كل منهما الآخر، وماتوا جميعًا عن طريق العنف، ثم استطرد عبدالناصر شارحًا كيف أنه تعلم من رائعة "تشارلز ديكنز" "قصة مدينتين" أنه إذا بدأت الثورة بإراقة الدماء فلن تتوقف عن ذلك، وسيقلدها الآخرون. يقول ديزموند ستيوارت عن عبدالناصر: "لم يُعجَب قط بمؤسّس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، فقط لأنه [أي أتاتورك] كان عنيفًا قاسي القلب".
ومثل أي مواطن مصري كان عبدالناصر مُترَعًا بروح الفكاهة والدُّعَابَة، متذوِّقًا للنكتة. يقول فتحي رضوان الذي عمل وزيرًا في عهد عبدالناصر: "كان [عبدالناصر] يتمتع بميزة الإحساس بالدُّعابة، بل لا يكفّ عن مداعبة زملائه وتلقّي التعليقات المنطوية على الدعابة... كان الحياء من أبرز صفاته... وكان لا يتخلف عن تقديم العون لكل من حوله من الكبار والصغار". ويقول مراد غالب: "كان عبدالناصر يتذوّق النكتة والضحك من قلبه عليها، وكانت اجتماعاته بعد نهاية العمل يملؤها القفشات والنوادر التي يصادفها، وكنا نشاركه في تعليقاته وقفشاته، وكان بارعًا في تقليد من يقابلهم... كان رجلًا سريع البديهة، ذا شخصية جذابة آسرة...". ويقول ويلتون واين: "روح الفكاهة عند عبدالناصر تؤلّف جزءًا من شخصيته... يملك نصيبه من روح الفكاهة التي يتميز بها شعب وادي النيل".
هذه شهادات لبعض المقربين من عبدالناصر أومن عايشوه عن كَثَب أو كانوا على اتصال به، وكلها تكشف عن شخصية إنسانية نادرة.
كان بسيطًا في حياته، يعيش حياة أي مواطن من الطبقة الوسطى، متواضعًا في سلوكه، يحترم من يقابلهم أو يتعامل معهم، ويعرف لهم قدرهم، لديه قدرة استثنائية على الإصغاء، يجلس مع الجميع بلا كلفة أو تصنّع، حَيِيًّا، مبتسمًا لا تفارقه روح الدعابة، يَكرَه المَظَاهر، شديد الحساسية لمعاناة الفقراء والمعدمين، لا يقبل الإهانة لأي شخص، وفيًّا لصداقاته، مترفعًا عن الصغائر، هادئ الطبع، لا يتسرع أبدًا في غضبه، ولا يخرجه غضبه عن الجادة، ولا يتخذ قراراته حال الغضب، متسامحًا لا يعرف الحقد حتى لمن أساء إلى شخصه، بعيدًا عن الغطرسة والتّجَبّر، وأبعد ما يكون عن العنف.
إنها سمات إنسانية عزّ أن تجتمع في إنسان واحد، لكنها كانت جوهر شخصية القائد عبدالناصر، النموذج النادر من القادة والمصلحين العظام، ومن أولئك الذين يُشبهون الأساطير لا لأنهم عاشوا خارج الزمان، بل لأنهم ارتقوا درجات في عالم المُثُل.
فهل يمكن أن يكون مثل هذا القائد دكتاتورًا؟!
................
التالي: حكاية المعتقلات.

الكلمات الدلالية