ردفان.. الشرارة التي أشعلت فجر الحرية
من هناك… من قمم ردفان الشمّاء، من بين الصخور التي احتضنت الثوار وأخفت أصوات البنادق الأولى، وُلدت ثورة الرابع عشر من أكتوبر عام 1963، الثورة التي أعادت للتراب الجنوبي كرامته، وأعلنت أن في الجنوب شعبًا لا يرضى بالقيد، ولا يقبل ببقاء الاستعمار.
لم يكن ردفان مجرد جبل، بل كان قصيدة حرية كتبها رجال شجعان، قلوبهم كانت أكبر من الجبال التي احتضنتهم. أطلقوا الرصاصة الأولى، فاهتزّت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وبدأت معركة الكرامة التي لن تنتهي إلا بالتحرير الكامل.
كانت ثورة أكتوبر امتدادًا طبيعيًا لوهج ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، تلك التي أطفأت ظلام الإمامة الكهنوتية في شمال الوطن. فمن صنعاء إلى عدن، ومن جبال نقم إلى جبال ردفان، اشتعلت جذوة الحرية، وامتزج الدم بالهتاف، وتوحّد اليمن في روحه قبل وحدته في الجغرافيا.
وحين صدحت إذاعة صوت العرب من القاهرة بنداء الثوار، كان جمال عبد الناصر يوجّه كلماته للعالم قائلًا في زيارته إلى تعز:
«إن بريطانيا يجب أن تحمل عصاها على كتفها وترحل من عدن».
فكانت تلك الكلمات كالصاعقة التي دوّت في أرجاء الجنوب، فاشتدّ العزم، وتدفّقت القوافل نحو ميادين النضال.
قدّمت مصر عبد الناصر دعمها بكل السبل — تدريبًا وتسليحًا وإعلامًا وموقفًا — لكن الروح التي فجّرت الثورة كانت يمنية خالصة، صاغها شعب الجنوب ببطولاته وتضحياته، وسقاها بدماء الشهداء الذين ملؤوا الساحات والجبال، وهم يرفعون رايات التحرير.
وفي شوارع عدن، دوّى صدى المظاهرات، وارتفعت رايات الوطن، يهتف الثوار ضد الاستعمار، تقودهم جبهتان خالدتان في ذاكرة النضال:
جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل والجبهة القومية.
كانوا جميعًا أبناء اليمن، يتسابقون في ميادين الشرف، يوحّدهم هدف واحد: الحرية والاستقلال.
حتى جاء اليوم الخالد 30 نوفمبر 1967، يوم رحل آخر جندي بريطاني عن أرض عدن، يوم سطعت شمس الحرية على الجنوب، وارتفع علم الحرية فوق سماء الكرامة والعزة. يومها بكى الثوار من الفرح، وعانقت عدن البحر وهي ترتدي ثوبها الجديد — ثوب الاستقلال.
واليوم، بعد عقود من النضال، تظل عدن كما كانت دائمًا: عاصمة الإرادة، وقلعة الصمود.
منها تعلّم اليمنيون معنى الثورة منذ محاولات التحرر في 1948 و1955، ومنها اليوم تُدار معركة استعادة الدولة من الإماميين الجدد، أولئك الذين يحاولون إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، لكنهم يجهلون أن في اليمن روحًا لا تُكسر، وشعبًا لا ينسى دروس الحرية.
تحية إلى شعبنا اليمني العظيم في كل مكان — شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا — تحية إلى من جعلوا من الحرية دينًا، ومن الكرامة عقيدة، ومن التضحية طريقًا نحو النور.
تحية إلى اليمن الذي لا ينكسر، وإلى الإنسان اليمني الذي يصرّ في كل مرة على أن يكون حرًّا، كريمًا، آمنًا، في دولةٍ عادلةٍ عمادها التنمية والمواطنة والمستقبل المشترك.
فلتبْقَ ردفان شاهدة على أول رصاصة للحرية، ولتبْقَ عدن منارة لكل الأحرار، ولتبْقَ اليمن — أرضًا وإنسانًا — كما أرادها الشهداء:
وطن العزة والكرامة والحرية الأبدية.